وعلّة جواز هذا البيت ونحوه ، مما حذف فيه ما يقوى بالحركة ، هى أن هذه الحركة إنما هى لالتقاء الساكنين ، وأحداث التقائهما ملغاة غير معتدّة ، فكأنّ النون ساكنة ، وإن كانت لو أقرّت لحرّكت ، فإن لم تقل بهذا لزمك أن تمتنع من إجماع العرب الحجازيين على قولهم : اردد الباب ، وأصبب الماء ، واسلل السيف. وأن تحتج فى دفع ذلك بأن تقول : لا أجمع بين مثلين متحرّكين. وهذا واضح.
ومن طريف حديث اجتماع السواكن شيء وإن كان فى لغة العجم ، فإن طريق الحسّ موضع تتلاقى عليه طباع البشر ، ويتحاكم إليه الأسود والأحمر ، وذلك قولهم : «آرد» للدقيق و «ماست» للّبن ؛ فيجمعون بين ثلاثة سواكن. إلا أننى لم أر ذلك إلا فيما كان ساكنه الأول ألفا ، وذلك أن الألف لما قاربت بضعفها وخفائها الحركة صارت «ماست» كأنها مست.
فإن قلت : فأجز على هذا الجمع بين الألفين المدّتين ، وأعتقد أن الأولى منهما كالفتحة قبل الثانية.
قيل : هذا فاسد ؛ وذلك أن الألف قبل السين فى «ماست» إذا أنت استوفيتها أدّتك إلى شيء آخر غيرها مخالف لها ، وتلك حال الحركة قبل الحرف : أن يكون بينهما فرق ما ، ولو تجشّمت نحو ذلك فى جمعك فى اللفظ بين ألفين مدّتين ، نحو كساا ، وحمراا ، لكان مضافا إلى اجتماع ساكنين أنك خرجت من الألف إلى ألف مثلها ، وعلى سمتها ، والحركة لا بدّ لها أن تكون مخالفة للحرف بعدها ؛ هذا مع انتقاض القضية فى سكون ما قبل الألف الثانية.
ورأيت مع هذا أبا على ـ رحمهالله ـ كغير المستوحش من الابتداء بالساكن فى كلام العجم. ولعمرى إنه لم يصرّح بإجازته ، لكنه لم يتشدّد فيه تشدّده فى إفساد إجازة ابتداء العرب بالساكن. قال : وذلك أن العرب قد امتنعت من الابتداء بما يقارب حال الساكن ، وإن كان فى الحقيقة متحركا ، يعنى همزة بين بين. قال : فإذا كان بعض المتحرك لمضارعته الساكن لا يمكن الابتداء به ، فما الظن بالساكن نفسه! قال : وإنما خفى حال هذا فى اللغة العجمية لما فيها من الزمزمة (١) ؛ يريد أنها لمّا
__________________
(١) الزمزمة : تراطن المجوس عند أكلهم وهم صموت ، لا يستعملون اللسان ولا الشفة فى كلامهم ، لكنه صوت تديره فى خياشيمها وحلوقها فيفهم بعضهم عن بعض. وانظر اللسان (زمم).