وفي سنة ثلاث وثمانين [وخمسمائة] ، قال ابن الأثير في الكامل (١) : كان أوّل يوم منها يوم السبت ، وكان يوم النيروز ؛ وذلك أول سنة الفرس ، واتفق أنّه أول سنة الروم أيضا ، وفيه نزلت الشمس برج الحمل ، وكذلك كان القمر في برج الحمل أيضا ، قال : وهذا شيء يبعد وقوع مثله.
وفي سنة ثلاث وتسعين ورد كتاب من القاضي الفاضل من مصر إلى القاضي محيي الدين بن الذكيّ يخبره فيه بأنّ في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة ، وبروق خاطفة ، ورياح عاصفة ، فقوي أهويتها ، واشتدّ هبوبها ، فتدافعت لها أعنّة مطلقات ، وارتفعت لها صواعق مصعقات ، فرجفت لها الجدران واصطفقت ، وتلاقت على بعدها واعتنقت ، وثار بين السماء والأرض عجاج فقيل : لعلّ هذه على هذه أطبقت ، ولا نحسب إلّا أنّ جهنّم قد سال منها واد ، وعدا منها عاد ، وزاد عصف الرياح إلى أن انطفأت سرج النجوم ، ومزّقت أديم السماء ومحت ما فوقه من الرقوم ؛ فكنا كما قال الله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) [البقرة : ١٩] ، وكما قلنا : ويردّون أيديهم على أعينهم من البوارق ، لا عاصم من الخطف للأبصار ، ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار ، وفرّ الناس نساء ورجالا وأطفالا ، ونفروا من دورهم خفافا وثقالا ، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، فاعتصموا بالمساجد الجامعة ، وأذعنوا للنّازلة بأعناق خاضعة ، ووجوه عاينة ، ونفوس عن الأهل والمال سالية ، ينظرون من طرف خفّي ، ويتوقّعون أي خطب جليّ ، قد انقطعت من الحياة علقهم ، وعمّيت عن النجاة طرقهم ، ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون ، وقاموا إلى صلاتهم ، وودّوا أن لو كانوا من الذين هم عليها دائمون ، إلى أن أذن الله في الركود ، وأسعف الهاجدين بالهجود ، وأصبح كلّ ليسلّم على رفيقه ، ويهنّئه بسلامة طريقه ، ويرى أنّه قد بعث بعد النفخة ، وأفاق بعد الصيحة والصرخة ، وأنّ الله قد ردّ له الكرّة ، وأدّبه بعد أن كان يأخذه على الغرّة. ووردت الأخبار بأنّها كسرت المراكب في البحار والأشجار في القفار ، وأتلفت خلقا كثيرا من السّفّار ، ومنهم من فرّ فلم ينفعه الفرار. إلى أن قال : ولا يحسب المجلس أنّي أرسلت القلم محرّفا ، والقول مجزّفا ، فالأمر أعظم ، ولكن الله سلّم ، ونرجو أن يكون الله قد أيقظنا بما وعظنا ، ونبّهنا بما ولّهنا ، فما من عباده من رأى القيامة عيانا ، ولم يلتمس عليها من بعده برهانا ، إلا أهل بلد يافا ، اقتصّ الأوّلون مثلها في المثلات ، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات ، والحمد لله الذي من فضله جعلنا نخبر عنها ولا تخبر عنّا ، ونسأل الله أن يصرف عنّا ، عارضي الحرص والغرور إذا عنّا.
__________________
(١) الكامل لابن الأثير : ٩ / ١٧٥.