وعليه كآبة وصفرة ، ودموعه في المحاجر كالحصى لها اجتماع وحمرة. وشاعر أوقعه في الضرورة بحره المديد ، واشتغل بهدم داره عن بيت القصيد ، وعروضيّ ضاقت عليه الدائرة فقال : هذه الفاصلة ، وقلع من عروض بيته وتدا أزعج بقلعه مفاصله. ونحويّ اشتغل عن زيد وعمرو يبلّ كتبه ، وذهل حين استوى الماء والخشبة ، عن المفعول معه والمفعول به ، وطار عقله لا سيّما عن تصانيف ابن عصفور ، وأخبر أنّ البحر وأثاث بيته جارّ ومجرور.
وأما الجزيرة الوسطى فقد أفسد جلّ ثمارها ، وأتى على مقاتيها فلم يدع شيئا من ردّيها وخيارها ، وألحق موجودها بالمعدوم ، وتلا على التكروريّ (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) [القلم : ١٦] ، وأخلق ديباج روضها الأنف ، وترك قلقاسها (١) بمدّه وجزره على شفا جرف.
وأما المنشاة فقد أصبحت للهجر مقرّة ، بعد أن كانت للعيون قرّة ، وقيل لمنشيها : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [البقرة : ٢٥٩] ، فقال : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٩]. ومال على ما فيها من شون الغلّات كلّ الميل ، وتركها تتلو بفمها الذي شقتاه مصراعا الباب : (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) [يوسف : ٦٣].
وأمّا بولاق فقد أصبحت صعيدا زلقا من الملق ، وقامت قيامة المارّ بها حين التفّت الساق بالساق من الزّلق ، فكم اقتلع بها شجرة لبتّ رؤوسها ، وترك ساقية تنوح على أختها التي أصبحت خاوية على عروشها.
وأمّا الخليج الحاكمي (٢) فقد خرج عكسر موجه بعد الكسر على حميّة ، ومرق من قسيّ قناطره كالسهم من الرميّة ، وتواضع حين قبّل بحّارة زويلة عتاب غرفها العالية ، وترك السقايين في حالة العجز عن وصفها صريع الدلاء وحمّاد الرواية. فأصبحوا من الكساد وقد سئموا الإقامة ، قائلين في شوارع مصر : يا الله السلامة.
ذكر البشارة بوفاء النيل (٣)
جرت العادة كلّ سنة إذا وفّى النيل أن يرسل السلطان بشيرا بذلك إلى البلاد
__________________
(١) القلقاس : نبات عسقولي جميل من فصيلة القلقاسيات ، يزرع في الشرق الأوسط ، أوراقه كبيرة خضراء ، ولبّه النشوي شبيه بلب البطاطا ، يؤكل أصله مطبوخا.
(المنجد).
(٢) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ١٤٣.
(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٥ : علامة وفاء النيل ستة عشر ذراعا.