المقطّم التي هي الآن دار السلاطين ، ولم يكن السلاطين يسكنون قبلها إلا دار الوزارة بالقاهرة ، وفتح من بلاد المسلمين حرّان ، وسروج ، والرّها والرّقّة ، والبيرة ، وسنجار ، ونصيبين ، وآمد. وملك حلب ، والمواريخ وشهرز. وحاصر الموصل إلى أن دخل صاحبها تحت طاعته ، وفتح عسكره طرابلس الغرب وبرقة من بلاد المغرب ، وكسر عسكر تونس ، وخطب بها لبني العباس. ولو لم يقع الخلف بين عسكره الذين جهّزهم إلى المغرب لملك الغرب بأسره ، ولم يختلف عليه مع طول مدّته أحد من عسكره على كثرتهم. وكان النّاس يأمنون ظلمه لعدله. ويرجون رفده لكثرته ، ولم يكن لمبطل ولا لصاحب هزل عنده نصيب. وكان إذا قال صدق ، وإذا وعد وفى ، وإذا عاهد لم يخن.
صفات صلاح الدين ووفاته
كان رقيق القلب جدّا ، ورحل إلى الإسكندرية بولديه الأفضل والعزيز (١) لسماع الحديث من السّلفيّ (٢) ، ولم يعهد ذلك لملك بعد هارون الرشيد ، فإنّه رحل بولديه الأمين والمأمون إلى الإمام مالك لسماع الموطّأ. هذا كلّه كلام السبكي في الطبقات.
قال : ومن الكتب والمراسيم عنه في النّهي عن الخوض في الحرف والصوت ؛ وهو من إنشاء القاضي الفاضل : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) [الأحزاب : ٦٠] ، الآية ، خرج أمرنا إلى كلّ قائم في صفّ ، أو قاعد في أمام وخلف ؛ ألّا نتكلم في الحرف بصوت ، ولا في الصّوت بحرف ، ومن تكلّم بعدها كان الجدير بالتّكليم ، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور : ٦٣] ، ويسأل النواب القبض على مخالفي هذا الخطاب ، وبسط العذاب ، ولا يسمع لمتفقّه في ذلك تحرير جواب ، ولا يقبل عن هذا الذنب متاب. ومن رجع إلى هذا الإيراد بعد الإعلان ؛ وليس الخبر كالعيان ، رجع أخسر من صفقة أبي غبشان (٣) ، وليعلن بقراءة هذا الأمر على المنابر ، وليعلم به الحاضر والبادي ليستوي فيه البادي والحاضر ، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.
ومن صنائع السلطان صلاح الدين أنّ أسقط المكوس والضرائب عن الحجّاج
__________________
(١) الأفضل نور الدين علي ، والعزيز عثمان. [الكامل لابن الأثير : ٩ / ٢٢٦].
(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٦٢٣٤ وسمع بها موطأ الإمام مالك على الفقيه أبي طاهر بن عوف.
(٣) في الكامل لابن الأثير : ٢ / ١١ : فجعل حليل فتح باب الكعبة وإغلاقه إلى ابنه المحترش وهو أبو غبشان ، فاشترى قصيّ منه ولاية البيت بزقّ خمر وبعود ، فضربت به العرب المثل ، فقالت : أخسر صفقة من أبي غبشان.