بمكّة ، وقد كان يؤخذ منهم شيء كثير ، ومن عجز عن أدائه حبس ، فربّما فاته الوقوف بعرفة ، وعوّض أميرها ثمال إقطاعا بديار مصر ، يحمل إليه منه في كلّ سنة ثمانية آلاف أردبّ غلّة ، لتكون عونا له ولأتباعه ، وقرّر للمجاورين أيضا غلّات تحمل إليهم وصلات ، فرحمة الله عليه في سائر الأوقات ، فلقد كان إماما عادلا ، وسلطانا كاملا لم بل مصر بعد الصّحابة مثله ، لا قبله ولا بعده!
وقد كان الخليفة المستضيء أرسل إليه في سنة أربع وسبعين خلعا سنيّة جدّا ، وزاد في ألقابه «معزّ أمير المؤمنين». ثمّ لمّا ولي الخليفة الناصر في سنة ستّ وسبعين أرسل إليه خلعة الاستمرار ، ثم أرسل إليه في سنة اثنتين وثمانين يعاتبه في تلقيبه بالملك الناصر ، مع أنّه لقب أمير المؤمنين ، فأرسل يعتذر إليه بأنّ ذلك كان من أيّام الخليفة المستضيء ، وأنّه إن لقّبه أمير المؤمنين بلقب ، فهو لا يعدل عنه ، وتأدّب مع الخليفة غاية الأدب.
قال العماد : وقد كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام الفرنج فيسرقون ، فاتّفق أنّ بعضهم أخذ صبيّا رضيعا من مهده ابن ثلاثة أشهر ، فوجدت عليه أمّه وجدا شديدا ، واشتكت إلى ملوكهم ؛ فقالوا لها : إنّ سلطان المسلمين رحيم القلب ، فاذهبي إليه ، فجاءت إلى السلطان صلاح الدين فبكت ، وشكت أمر ولدها ، فرقّ لها رقّة شديدة ، ودمعت عيناه ، فأمر بإحضار ولدها ، فإذا هو بيع في السوق ، فرسم بدفع ثمنه إلى المشتري ، ولم يزل واقفا حتّى جيء بالغلام ، فدفعه إلى أمّه ، وحملها على فرس إلى قومها مكرّمة.
واستمرّ السلطان صلاح الدين على طريقته العظيمة ؛ من مثابرة الجهاد للكفّار ، ونشر العدل ، وإبطال المكوس (١) والمظالم ، وإجراء البرّ والمعروف إلى أن أصيب به المسلمون ، وانتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى ليلة الأربعاء سادس (٢) عشري صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة ، وله من العمر سبع وخمسون سنة. وعمل الشعراء فيه مراثي كثيرة ، من ذلك قصيدة للعماد الكاتب ، مائتان وثلاثون بيتا أوّلها :
شمل الهدى والملك عمّ شتاته |
|
والدّهر ساء وأقلعت حسناته |
بالله أين النّاصر الملك الّذي |
|
لله خالصة صفت نيّاته؟ |
أين الّذي ما زال سلطانا لنا |
|
يرجى نداه وتتّقى سطواته؟ |
__________________
(١) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٣.
(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٥ : سابع عشري.