وأما المحاسن فدارت دوائره على وجنات الدهر عاطفة ، وثقلت أرداف أمواجه على خصور الجواري واضطربت كالخائفة ، ومال شيّق النخيل إليه فلثم ثغر طلعه وقبّل سالفه ، وأمست سود الجواري كالحسنات على حمرة وجناته ، وكلّما زاد زاد الله في حسناته ؛ فلا فقير سدّ إلا حصل له من فيض نعماه فتوح ، ولا ميّت خليج إلا عاش به ودبّت فيه الروح ، ولكنّه احمرّت عينه على الناس بزيادة وترفّع ، فقال له المقياس (١) : عندي قبالة كلّ عين أصبع. ونشر أعلام قلوعه وحمل وله على ذي الجزيرة زمجرة ، ورام أن يهجم على غير بلاده فبادر إليه عزم المؤيديّ وكسره.
وقد آثرنا الجناب بهذه البشرى الّتي سرى فضلها برّا وبحرا ، وحدّثناه عن البحر ولا حرج وشرحنا له حالا وصدرا ، ليأخذ حظّه من هذه البشارة البحريّة بالزيادة الوافرة ، وينشق من طيبها نشرا فقد حملت له من طيّبات ذلك النسيم أنفاسا عاطرة. والله تعالى يوصل بشائرنا الشريفة لسمعه الكريم ليصير بها في كلّ وقت مشنفا ، ولا برح من نيلها المبارك وإنعامنا الشريف على كلا الحالين في وفا.
ذكر المقياس
قال ابن عبد الحكم : كان أوّل من قاس النّيل بمصر يوسف (٢) عليهالسلام ، ووضع مقياسا بمنف ، ثم وضعت العجوز دلوكة (٣) ابنة زبّاء مقياسا بأنصنا (٤) ؛ وهو صغير الذّرع ومقياسا بإخميم. ووضع عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان وهو صغير ، ووضع أسامة ابن زيد التّنوخيّ في خلافة الوليد (٥) مقياسا بالجزيرة ؛ وهي المسمّاة الآن بالرّوضة ، وهو أكبرها ؛ حدّثنا يحيى بن بكير ، قال : أدركت القيّاس يقيس في مقياس منف ويدخل بزيادته إلى الفسطاط.
هذا ما ذكره ابن عبد الحكم.
قال التّيفاشيّ : ثم هدم المأمون مقياس الجزيرة ، وأسّسه ولم يتمّه ، فأتمّ المتوكّل بناءه (٦) وهو الموجود الآن.
__________________
(١) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٥.
(٢) النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٢.
(٣) انظر النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٢.
(٤) في النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٢ : أنصنا مدينة قديمة من نواحي صعيد مصر.
(٥) في النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٢ : الوليد بن عبد الملك.
(٦) في النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٢ : سنة ٢٤٧ ه.