وقبّل ثغور الإسلام فأرشفها ريقه الحلو فمالت أعطاف غصونها إليه ، وشبّب خريره في الصعيد بالقصب ، ومدّ سبائكه الذهبيّة إلى جزيرة الذهب ، فضرب الناصريّة واتّصل بأمّ دينار ، وقلنا : لولا أنّ صبغ بقوّة لما جاء وعليه ذلك الاحمرار.
وأطال الله عمر زيادته فتردّد إلى الآثار ، وعمّته البركة فأجرى سواقي ملكه إلى أن غدت جنّة تجري من تحتها الأنهار ، وحضن مشتهى الرّوضة في صدره ، وحنا عليها حنوّ المرضعات على الفطيم :
وأرشفنا على ظمأ زلالا |
|
ألذّ من المدامة للنديم |
وراق مديد بحره لما انتظمت عليه تلك الأبيات ، وسقى الأرض سلافته (١) الخمريّة فخدمته بحلو النبات ، وأدخله إلى جنّات النخيل والأعناب فالق النوى والحبّ ، فأرضع في أحشاء الأرض جنين النّبت ، وأحيا له أمّهات العصف والأبّ. وصافحته كفوف الموز فختمها بخواتمه العقيقيّة ولبس الورد تشريفه ، وقال : أرجو أن تكوني شوكتي في أيّامه قويّة ، ونسي الزهر بحلاوة لقائه مرارة النّوى ، وهامت به مخدّرات الأشجار فأرخت ضفائر فروعها عليه من شدّة الهوى ، واستوفى النبات ما كان له في ذمة الريّ من الديون ، ومازج الحوامض بحلاوته فهام النّاس بالسّكّر والليمون ، وانجذب إليه الكبّاد وامتدّ ، ولكنّ قوى قوسه لمّا حظي منه بسهم لا يردّ ، ولبس شربوش الأترجّ وترفّع إلى أن لبس بعده التاج ، وفتح منثور الأرض لعلامته بسعة الرزق وقد نفذ أمره وراج ، فتناول مقالم الشنبر وعلّم بأقلامها ، ورسم لمحبوس كلّ سدّ بالإفراج ، وسرّح بطائق السفن فخفقت أجنحتها بمخلق بشائره ، وأشار بأصابعه إلى قتل المحل فبادر الخصب إلى امتثال أوامره ، وحظي بالمعشوق وبلغ من كلّ منية مناه ، فلا سكن على البحر إلّا تحرّك ساكنه بعدما تفقّه واتقن باب المياه ، ومدّ شفاه أمواجه إلى تقبيل فم الخور (٢) ، وزاد مترعه فاستحلى المصريّون زائده على الفور ، ونزل في بركة الحبش (٣) فدخل التّكرور في طاعته ، وحمل على الجهات البحريّة فكسر المنصورة وعلا على الطويلة بشهامته ، وأظهر في مسجد الخضر عين الحياة فأقرّ الله عينه ، وصار أهل دمياط في برزخ بين المال وبينه ، وطلب المالح ردّه بالصدر وطعن في حلاوة شمائله ، فما شعر إلّا وقد ركب عليه ونزل في ساحله.
__________________
(١) السلافة : سلافة أي شيء عصرته وأوّله.
(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٤٤ : خليج فم الخور يخرج الأن من بحر النيل ويصبّ في الخليج الناصري ليقوى جري الماء فيه.
(٣) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ١٥٢.