ديونه ، ونزل السّعر حين أخذ منه طالع الارتفاع ، وأحدق بالقرى فأصبح كأنّه سماوات كواكبها الضّياع ؛ فلم يكن بعد ذلك إلّا كلمح البصر أو هو أقرب ، حتّى عسل (١) في شوارع مصر كما عسر الطريق الثعلب ، وجاس خلال ديارها فأصبح على زرائبها المبثوثة بسطة ، وأحاط بالمقياس إحاطة الدائرة بالنقطة. ثمّ علت أمواجه ، واشتدّ اضطرابه ، وكاد يمتزج بنهر المجرّة الذي الغمام زبده والنجوم حبابه (٢).
وشرّق حتّى ليس للشّرق مشرق |
|
وغرّب حتّى ليس للغرب مغرب |
إلى أن قال : أما دير الطّين (٣) فقد ليّس سقوف حيطانه ، واقتلع أشجار غيطانه ، وأتى على ما فيه من حاصل وغلّة ، وتركه ملقة ، فكان كما قيل : زاد الطّين بلّة.
وأما الجيزة فقد طغى الماء على قناطرها وتجسّر ، ووقع بها القصب من قامته حين علا عليه الماء وتكسّر ، فأصبح بعد اخضرار بزّته شاحب الإهاب ، ناصل الخضاب ، غارقا في قعر (بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) [النور : ٤٠] ، وقطع طريق زاويتها على من بها من المنقطعين والفقراء ، وترك الطالح كالصالح يمشي على الماء ، فتنادوا مصبحين : (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) [القلم : ٢٤] ، وأدركهم الغرق فأيسوا من الخلاص ، (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) [طه : ٧٨] ، فنادوا : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص : ٣] ، (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢٦] ، فانهدّت قواهم ، واستغاثوا من كثرة الماء بالذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم.
وأمّا الروضة (٤) فقد أحاط بها إحاطة الكمام بزهره ، والكأس بحباب خمره :
فكأنّها فيه بساط أخضر |
|
وكأنّه فيها طراز مذهّب |
فكم بها من متهم ومنجد ، ومسافر ممّا حصل له من المقيم المقعد. وحائك أصبح حول نوله ينير ، وجعل من غزله بل من غيظه على أجيره يحمل ويسير. ومنجّم وصل الماء من منزله إلى العتبة الخارجة فأصبح في أنحس تقويم ، ودخل إلى بيت أمراضه (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٨] ، فأصبح في الطريق
__________________
(١) عسل : تحرّك واضطرب.
(٢) الحباب : الفقاقيع التي تعلو الماء.
(٣) في الخطط المقريزية : ١ / ٥٠٣ : دير مار حنّا قرب النيل يعرف اليوم بدير الطين.
(٤) جزيرة الروضة في النيل.