لتطمئن قلوب العباد ، وهذه عادة قديمة ، ولم يزل كتّاب الإنشاء ينشئون في ذلك الرسائل البليغة ؛ فمن إنشاء القاضي الفاضل في وفاء النيل عن السلطان صلاح الدين بن أيّوب :
نعم الله سبحانه وتعالى من أضوئها بزوغا ، وأخفاها سبوغا ، وأصفاها ينبوعا ، وأسناها منفوعا ، وأمدّها بحر مواهب ، وأختمها حسن عواقب. النّعمة بالنيل المصريّ الذي يبسط الآمال ويقبضها مدّه وجزره ، ويرمي النبات حجره ، ويحيي مطلعه الحيوان ، ويجني ثمرات الأرض صنوانا وغير صنوان ، وينشر مطويّ حريرها وينشر مواتها ، ويوضح معنى قوله تعالى : (وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) [فصلت : ١٠].
وكان وفاء النيل المبارك تاريخ كذا ، فأسفر وجه الأرض وإنّ كان تنقّب ، وأمن يوم بشراه من كان خائفا يترقّب ، ورأينا الإبانة عن لطائف الله التي خفقت الظنون ، ووفت بالرزق المضمون ، (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ٩٩]. وقد أعلمناك لتستوفي حقّه من الإذاعة ، وتبعده من الإضاعة ، وتتصرّف على ما نصرّفك من الطاعة ، وتشهر ما أورده البشير من البشرى بإبانته ، وتمدّه بإيصال رسمه مهنّى على عادته.
وكتب القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر عن السلطان إلى نائب السلطنة بحلب بشارة بوفاء النيل :
أعزّ الله أنصار المقرّ وسرّه بكلّ مبهجة ، وهنّأه بكلّ مقدمة سرور تفد وللخصب والبركة منتجة ، وبكلّ نعمى لا تصبح لمنّة السحاب محوجة ، وبكلّ رحمى لا يستعدّ لأيّامها الباردة ولا للياليها المثلجة. هذه المكاتبة تفهمه أنّ نعم الله وإن كانت متعدّدة ، ومنحه وإن غدت بالبركات متردّدة ، ومنّته وإن أصبحت إلى القلوب متودّدة ، فإنّ أشملها وأكملها ، وأجملها وأفضلها ، وأجزلها وأنهلها ، وأتمّها وأعمّها ، وأضمّها وألمّها ، نعمة أجزأت المنّ والمنح ، وأنزلت في برك سفح المقطّم أغزر سفح. وأتت بما يعجب الزّراع ، ويعجّل الهرّاع ، ويعجز البرق اللمّاع ، ويعلّ القطاع ، ويغل الأقطاع ، وتنبعث أفواهه وأفواجه ، ويمدّ خطاها أمواهه وأمواجه ، ويسبق وفد الريح من حيث ينبري ، ويغبط مرّيخه الأحمر القمر لأنّ بيته السّرطان كما يغبط الحوت لأنّه بيت المشتري ، ويأتي عجبه في الغد بأكثر من اليوم وفي اليوم بأكثر من الأمس ، ويركب الطريق مجدّا ، فإن ظهر بوجهه حمرة فهي ما يعرض للمسافر من حرّ الشمس. ولو لم تكن شقته طويلة