لما قيست بالذّراع ، ولو لا أنّ مقياسه أشرف البقاع لما اعتبر ما تأخّر من ماء حوله الماضي بقاع ، بينا يكون في الباب إذ هو في الطّاق ، وبينا يكون في الاحتراق إذا هو في الاختراق للإغراق ، وبينا يكون في المجاري ، إذا هو في السواري ، وبينا يكون في الجباب إذا هو في الجبال ، وبينا يقال لزيادته : هذه الأمواه إذ يقال لغلّاته : هذه الأموال. وبينا يكون ماء إذ أصبح حبرا ، وبينا هو يكسب تجارة قد أكسب بحرا ، وبينا يفسد عراه قد أتى بعرار جسور على الجسور جيشه الكرّار ، وكم أمست التّراع منه تراع ، والبحار منه تحار. كم حسنت مقطّعاته على مرّ الجديدين ، وكم أعانت مرارة مقياسه على الغرو من بلاد سيس (١) على العمودين (٢). أتمّ الله لطفه في الإتيان به على التّدريج ، وأجراه بالرّحمة إلى نقص العيون بالتفرّج والقلب بالتفريج ، فأقل جيشه بمواكبه ، وجاء يطاعن الجدب بالصواري من مراكبه ، ويصافف لجاجة الجسور في بيداء لججه ، ويثاقف القحط بالتراس من بركه والسّيوف من خلجه.
ولمّا تكامل إيابه ، وصحّ في ديوان الفلاح والفلاحة حسابه ، وأظهر ما عنده من ذخائر التيسير وودائعه ، ولفظ عموده حمل ذلك على أصابعه. وكانت الستّة عشر ذراعا تسمّى ماء السلطان ، نزلنا وحضرنا مجلس الوفاء المعقود ، واستوفينا شكر الله تعالى بفيض ما هو من زيادته محسوب ومن صدقاتنا مخرج ومن القحط مردود ، وقع تيّاره بين أيدينا سطورا تفوق ، وعلت يدنا الشريفة بالخلوق ، وحمدنا السير كما حمد لنا السرى ، وصرفناه في القرى للقرى ، ولم نحضره في العام الماضي فعملنا له من الشكر شكرانا وعمل هو ما جرى.
وحضرنا إلى الخليج وإذا به أمم قد تلقّونا بالدعاء المجاب ، وقرّظونا فأمرنا ماءه أن يحثو من سدّه في وجوه المدّاحين بالتراب ، ومرّ يبدي المسادّ ويعيدها ، ويزور منازل القاهرة ويعودها ، وإذا سئل عن أرض الطبّالة ، قال : جننّا بليلى ، وعن خلجها ، وهي جنّت بغيرنا. وعن بركة الفيل (٣) قال : وأخرى بنا مجنونة لا نريدها. وما برح حتّى تعوّض عن القيعان البقيعة ، من المراكب بالسرر المرفوعة ، ومن الأراضي المحروثة ، من جوانب الأدرب بالزرابيّ المبثوثة.
وانقضى هذا اليوم عن سرور لمثله فليحمد الحامدون ، وأصبحت مصر جنّة فيها
__________________
(١) سيس : لم تذكر في معجم البلدان.
(٢) لعلّ المقصود بذلك المسلّتان بعين شمس بالقرب من المطرية من ضواحي القاهرة. [النجوم الزاهرة : ١ / ٥٤].
(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٦٤ : هذه البركة فيما بين مصر والقاهرة.