وأمّا حمام الرسائل ؛ فهي من آيات الله المستنطقة الألسن بالتسبيح ، العاجز عن وصفها إعجاز البليغ الفصيح ، فيما تحمله من البطائق ، وترد به مسرعة من الأخبار الواضحة الحقائق ، وتعاليه في الجوّ محلّقا عند مطاره ، وتهديه على الطريق التي عليها ليأمن من فوت الإدراك وأخطاره ، ونظره إلى المقصد الذي يسرح إليه عليّ ، ووصوله إلى أقرب الساعات بما يصل به البريد في أبعد الأيام من الخبر الجليّ ، ومجيئه معادلا لرؤوس السفّار مسامتا ، وإيثاره بالمتجدّدات فكأنّه ناطق وإن كان صامتا ، وكونه يمضي محمولا على ظهر المركوب ، ويرجع عاملا على ظهره للمكتوب ، ولا يعرّج على تذكار الهدير ، ولا يسأمّ من الدأب في الخدمة زائدا على التقدير ، وفي تقدّمه البشائر ، يكون المعني بقولهم : أيمن طائر ؛ ولا غرو أن فارق رسل أهل الأرض وفاتهم وهو مرسل والعنان عنانه ، والجوّ ميدانه ، والجناح مركبه ، والرياح موكبه ، وابتداء الغاية شوطه ، والشّوق إلى أهله سوطه ؛ مع أمنه ما يحدث لمنتاب السّفّار ، ومخبّآت القفار ، من مخاوف الطارق وطوارق المخاوف ، ومتلف الغوائل وغوائل المتالف ، إلا ما يشدّ من اعتراض خارج جارح ، وانقضاض كاسب كاسر ، فتكفّ سعادة الدولة تأميمه ، وتصدّ عنه تصميمه ، لأنه أخذ جيشها من الطّيرين اللذين يحدثان في أعدائها ؛ هذا بالإنذار الجاعل كيدهم في تضليل ، وذلك بما ترى رايتها المنصورة عليهم من تضليل.
وقال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر رحمهالله تعالى :
ولما وقفت على ما أنشأه القاضي الفاضل ، وعلى ما أنشأهم الشيخ السديد أردت أن أجرّب الخاطر ، فأنشأت وأنا غير مخاطب أحدا بل مخاطر ، وأين الثرى من الثريّا ، وما الحسن لكلّ أحد يتهيّا ، وعليّ أن أجيب وما عليّ أن أجيد ، وما كلّ والد يدرك شأو الوليد ، ولا كلّ كاتب عبد الرحيم ولا عبد الحميد ، فقلت :
وأمّا حمائم الرسائل فكم أغنت البرد عن جوب القفار ، وكم قدّت جيوبها على أسرى أسرار ؛ وكم أعارت السهام أجنحة فأحسنت بتلك العارية المطار ، وكم قال جناحها لطالب النجاح : لا جناح ، وكم سرت فحمدت المساء إذا حمد غيرها من السارين الصباح ، وكم ساوقت الصّبا والجنائب ففاقتهما ولم تحوج سلام المشتاقين إلى امتطاء كاهل الرّياح.
كم حسّن ملك كلّ منهما ملك ، وكم قال مسرّحها لمجيئه بها : قرّة عين لي ولك ، كم أجملت في الهوى تقلّبا ، وإذا غنت الحمائم على الغصون صمتت عن الهديل والهدير تأدبا ، كم دفعت شكّا بيقينها ، ورفعت شكوى بتبيينها ، وكم أدّت أمانة ولم تعلم أجنحتها بما في شمالها ولا شمالها بما في يمينها. كم التفّت منها السّاق بالساق ،