وفاته ، ثمّ وليها بعده ولده القاضي عماد الدين أبو الحسن عليّ ، وفي أيامه تسلّم له القطعة المستأجرة من الجزيرة أولا ، وبقي بيد السلطنة القطعة الثانية إلى الآن ، وكان الإفراج عنهما في شهور سنة ثمان وتسعين وستمائة في الدولة الناصرية ، ولم يزل القاضي عماد الدين مدرّسها إلى حين وفاته ، فوليها ولده وهو مدرّسها الآن في شعبان سنة أربع عشرة وسبعمائة. هذا كلّه كلام ابن المتوج.
ولم تزل الرّوضة متنزّها ملوكيّا ، ومسكنا للناس إلى أن تسلطن الملك الصالح نجم الدين أيّوب بن الكامل محمد ، فأنشأ بالرّوضة قلعة ، واتّخذها سرير ملك ، فعرفت بقلعة المقياس (١) وبقلعة الروضة ، وبقلعة الجزيرة وبالقلعة الصالحية. وكان الشّروع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان سنة ثمان وثلاثين وستمائة ، ووقع الهدم في الدّور والقصور والمساجد التي كانت بجزيرة الروضة ، وتحوّل الناس من مساكنهم الّتي كانت بها ، وهدم كنيسة كانت لليعاقبة بجانب المقياس ، وأدخلها في القلعة ، وأنفق في عمارتها أموالا جمّة ، وبنى فيها الدور والقصور ، وعمل لها ستّين برجا ، وبنى بها جامعا ، وغرس بها جميع الأشجار ، ونقل إليها من البرابي العمد الصوّان والعمد الرخام ، وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليها من الغلال والأقوات خشية من محاصرة الفرنج فإنّهم كانوا حينئذ على عزم قصد بلاد مصر.
وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة ؛ حتّى قيل إنه استقام كلّ حجر فيها بدينار ، وكلّ طوبة بدرهم ، وكان الملك الصالح يقف بنفسه ، ويرتّب ما يعمل ، فصارت تدهش من كثرة زخرفها ، ويحيّر الناظر إليها حسن سقوفها المقرنصة (٢) ، وبديع رخامها. ويقال إنّه قطع من الموضع الذي أنشأ فيه هذه القلعة ألف نخلة مثمرة ، وكان رطبها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه. وخرب البستان المختار والهودج ، وهدم ثلاثة وثلاثين مسجدا كانت بالروضة ، وأدخلت في القلعة.
واتفق له في بعض المساجد خبر عجيب ؛ قال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد اليغموري : سمعت الأمير جمال الدين موسى بن يغمور بن جلدك ، يقول : من عجيب ما شاهدته من الملك الصالح ، أنّه أمرني أن أهدم مسجدا بجزيرة مصر ، فأخّرت ذلك ، وكرهت أن يكون هدمه على يدي ، فأعاد الأمر ، وأنا أكاسر عنه ؛ فكأنّه فهم منّي ذلك ، فاستدعى بعض خدمه وأنا غائب ، وأمره أن يهدم ذلك المسجد ، وأن يبني في
__________________
(١) الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٣.
(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٣ : المزيّنة.