وأعانه على ذلك قوم رمى الله بصائرهم بالعمى والصّمم ؛ واتّخذوه صنما ولم تكن الضّلالة هناك إلا بعجل أو صنم ؛ فقمت أنت في وجه باطله حتّى قعد ، وجعلت في جيده حبلا من مسد ؛ وقلت ليده : تبّت ، فأصبح ولا يسعى بقدم ولا يبطش بيد. وكذلك فعلت بالآخر الذي نجمت باليمن (١) ناجمته ، وسامت فيه سائمته ؛ فوضع بيته موضع الكعبة اليمانيّة ، وقال هذا ذو الخلصة الثانية. فأيّ مقامك يعترف الإسلام بسبقه ، أم أيّهما يقوم بأداء حقّه؟!
وهاهنا فليصبح القلم للسيف من الحسّاد ، وليقصر مكانته عن مكانته وقد كان له من الأنداد ، ولم يحط بهذه المزيّة إلا أنّه أصبح لك صاحبا ، وفخر بك حتّى طال فخرا كما عزّ جانبا ، وقضى بولايتك فكان بها قاضيا ، لمّا كان حدّه ماضيا.
وقد قلّدك أمير المؤمنين البلاد المصريّة واليمنيّة غورا ونجدا ، وما اشتملت عليه رعيّة وجندا ، وما انتهت إليه أطرافها برّا وبحرا ، وما يستنقذ من مجاوريها مسالمة وقهرا. وأضاف إليها بلاد الشام وما تحتوي عليه من المدن الممدّنة ، والمراكز المحصّنة مستثنيا منها ما هو بيد نور الدّين إسماعيل بن نور الدين محمود رحمهالله وهو حلب وأعمالها ؛ فقد مضى أبوه عن آثار في الإسلام ترفع ذكره في الذاكرين ؛ وتخلفه في عقبه في الغابرين ، وولده هذا قد هذّبته الفطرة في القول والعمل ، وليست هذه الرّبوة إلّا من ذلك الجبل ؛ فليكن له منك جار يدنو منه ودادا كما دنا أرضا ، وتصبح وهو له كالبنيان يشدّ بعضه بعضا ؛ والذي قدّمناه من الثناء عليك ربّما تجاوزتك درجة الاقتصاد وألقتك عن فضيلة الازدياد. فإيّاك أن تنظر إلى سعيك نظر الإعجاب ، فتقول : هذه بلادنا افتتحتها بعد أن أضرب عنها كثير من الأضراب. ولكن اعلم أنّ الأرض لله ولرسوله ، ثمّ لخليفته من بعده ، ولا منّة للعبد بإسلامه ، بل المنّة لله بهداية عبده. وكم سلف قبلك ممّن لو رام ما رمته لدنا شاسعه وأجاب مانعه ؛ ولكن ذخره الله لك لتحظى في الآخرة بمفازه ، وفي الدنيا برقم طرازه ، فألق بيدك عند هذا القول إلقاء التّسليم ، وقل : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢].
وقد قرن تقليدك هذا بخلعة تكون لك في الإسلام شعارا ، وفي الرّسم فخارا ، وتناسب محلّ قلبك وبصرك ؛ وخير ملابس الأولياء ما ناسب قلوبا وأبصارا ، ومن جملتها طوق يوضع في عنقك موضع العهد والميثاق ، ويشير إليك بأنّ الإنعام قد أطاق بك إطاقة الأطواق بالأعناق.
__________________
(١) لعلّ المقصود بذلك عبد النبي صاحب زبيد في اليمن. [انظر الكامل لابن الأثير : ٩ / ١٢٢].