ما أطاعه كل مخلوق ولم يتخلّف ، وجعل له من لباس العبّاس ما يقضي سواده بسؤدد الأجداد ، وينفض على ظلّ الهدب ما فضل عن سويداء القلب وسواد البصر من السواد ، ويمدّ ظلّه على الأرض وكلّ مكان دار ملك وكلّ مدينة بغداد ، وهو في ليله السجّاد ، وفي نهاره العسكري وفي كرمه جعفر وهو الجواد ؛ يديم الابتهال إلى الله في توفيقه ، والابتهاج بما يغصّ كلّ عدوّ بريقه.
وتبدأ بعد المبايعة بما هو الأهمّ من مصالح الإسلام ، وصالح الأعمال فيما تتحلّى به الأيّام ، ويقدّم التقوى أمامه ، ويقرّر عليها أحكامه ، ويتّبع الشرع الشريف ويقف عنده ويوقف الناس ، ومن لا يحمل أمره طائعا على العين يحمله غصبا على الرأس ، ويعجّل أمير المؤمنين بما استقرّت به النفوس ، ويردّ به كيد الشيطان إنّ يؤوس ، ويأخذ بقلوب الرعايا وهو غنيّ عن هذا ولكنه يسوس.
وأمير المؤمنين يشهد الله وخلقه عليه ، أنّه أقرّ وليّ كلّ أمر من ولاة أمور الإسلام على حاله ، واستمرّ به في مقيله تحت كنف ظلاله ، على اختلاف طبقات ولاة الأمور ، وطرقات الممالك والثغور ، برّا وبحرا ، وسهلا ووعرا ، شرقا وغربا ، بعدا وقربا ، وكلّ جليل وحقير ، وقليل وكثير ، وصغير وكبير ، وملك ومملّك وأمير ، وجنديّ يرى له سيف شهير ، ورمح ظهير ، ومن مع هؤلاء من وزراء وقضاة وكتّاب ، ومن له تدقيق في إنشاء وتحقيق في حساب ، ومن يتحدّث في بريد وخراج ، ومن يحتاج إليه ومن لا يحتاج ، ومن في التّدريس والمدارس ، والرّبط والزّوايا والخوانق ، ومن له أعظم التعلّقات وأدنى العلائق ، وسائر أرباب المراتب ، وأصحاب الرواتب ، ومن له من الله رزق مقسوم ، وحقّ مجهول أو معلوم ، استمرارا لكلّ امرئ على ما هو عليه ، حتّى يستخير الله ويتبيّن له ما بين يديه ، فمن ازداد تأهيله زاد تفضيله ، وإلّا فأمير المؤمنين لا يريد إلا وجه الله ، ولا يحابي أحدا في دين الله ، ولا يحابي حقّا في حقّ ؛ فإنّ المحاباة في الحقّ مداجاة على المسلمين ، وكلّ ما هو مستمرّ إلى الآن مستقرّ على حكم الله ممّا فهّمه الله له ، وفهّمه سليمان ، لا يغيّر أمير المؤمنين في ذلك ولا في بعضه شكرا لله على نعمه ، وهكذا يجازي من شكر ، ولا يكدّر على أحد موردا نزّه الله نعمه الصافية عن الكدر ، ولا يتأوّل في ذلك متأوّل إلا من جحد النّعمة أو كفر ، ولا يتعلّل متعلل ؛ فإنّ أمير المؤمنين يعوذ بالله ويعيذ أيامه الغرر من الغير ، وأمر أمير المؤمنين ـ أعلى الله أمره ـ أن يعلن الخطباء بذكره ، وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق ، وأن تضرب باسمهما النقود وتسير بالإطلاق ، ويوشّح بالدّعاء لهما عطف الليل والنهار ، ويصرّح منه بما يشرق به وجه الدرهم والدينار.