كنت عند الشيخ أبي الخير بالتينات ، فبسط محادثته لي إلى أن هجمت عليه ، فسألته عن سبب قطع يده ، وما كان منه ، فقال : يد جنت فقطعت. فظننت أنه كانت له صبوة في حداثته في قطع طريق أو نحوه مما أوجب ذلك ، فأمسكت. ثم اجتمعت معه بعد ذلك بسنين مع جماعة من الشيوخ ، فتذاكروا مواهب الله لأوليائه ، وأكثروا كرامات الله لهم ، إلى أن ذكروا طيّ المسافات ، فتبرم الشيخ بذلك ، فقال : لم يقولون : فلان مشى إلى مكة في ليلة ، [وفلان](١) مشى في يوم؟ أنا أعرف عبدا من عبيد الله حبشيا كان جالسا في جامع أطرابلس ، ورأسه في جيب مرقّعته ، فخطر له طيبة الحرم ، فقال في سرّه : يا ليتني كنت بالحرم ، ثم أمسك عن الكلام.
فتغامز الجماعة ، وأجمعوا على أنه ذلك الرجل.
وقال أبو القاسم بكر بن محمّد :
كنت عند أبي الخير التيناتي وجماعة اجتمعوا على أن يسألوه (٢) عن سبب قطع يده ، فقال : يد جنت ، فقطعت. فقيل : قد سمعنا منك هذا مرارا كثيرة ، أخبرنا كيف سببه؟ فقال : نعم.
أنتم تعلمون أني من أهل المغرب ، فوقعت في مطالبة السفر ، فسرت حتى بلغت إسكندرية ، فأقمت بها اثنتي عشرة سنة ، ثم سرت منها إلى أن صرت بين شطا (٣) ودمياط (٤) ، فأقمت أيضا اثنتي عشرة سنة. فقيل له : مكانك ، إلى هاهنا انتهينا ، الإسكندرية بلد عامر ، أمكن أن تقيم بها ، بين شطا ودمياط لا زرع ولا ضرع ، أي شيء كان قوتك اثنتي عشرة سنة؟ فقال : نعم ، كان في الناس خير في ذلك الزمان ، وان يخرج من مصر خلق كثير يرابطون بدمياط ، وكنت قد بنيت كوخا على شط الخليج ، فكنت أجيء من الليل إلى الليل إلى تحت السور ، فإذا أفطر المرابطون نفضوا سفرهم (٥) خارج السور ، فأزاحم الكلاب على قمامة السّفر ، فآخذ كفايتي ، فكان هذا قوتي في الصيف. فقالوا : ففي الشتاء؟ قال : نعم ، كان ينبت
__________________
(١) استدركت على هامش مختصر أبي شامة.
(٢) في مختصر أبي شامة : يسألونه.
(٣) شطا : بالفتح والقصر ، وقيل : شطاة : بليدة بمصر (معجم البلدان).
(٤) دمياط : مدينة قديمة بين تنيس ومصر على زاوية بين بحر الروم ونهر النيل (معجم البلدان).
(٥) سفرهم : السفرة بالضم ، طعام المسافر ، المعدّ للسفر ، والسفرة ما يوضع فيه الأديم. والسفرة التي يؤكل عليها ، وسميت لأنها تبسط إذا أكل عليها (تاج العروس).