ويشهد على ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة داعياً الناس أن يتبعوا المرسلين ، لأنهم مبعوثون من جانبه سبحانه بشهادة أنّهم لا يسألون أجراً في دعوتهم ، قال سبحانه :
( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُهْتَدُونَ ) (١).
ثم إنَّ رفضهم الأجر في تبليغ أوامره سبحانه كان لأجل أمرين :
١. أنّ ما قام به الأنبياء من الخدمة للناس أعلى وأنبل من أن يقوّم بالدراهم والدنانير ، أو بالمناصب والمقامات الدنيوية ، فأي شيء يساوي إنقاذ الناس من الخضوع للحجر والمدر ، والأشكال والصور والخوض في قبائح الأعمال ، ورذائلها مما يحطم السعادة الإنسانية ويجلب للبشر الشقاء والانحطاط ؟
أم ترى بماذا يقوّم إنقاذ الأمم مما كانت عليه قبل بعث الأنبياء من الفتك والقتل ووأد البنين والبنات ، وشن الغارات ، وقطع الرحم وأكل الميتة والجيف ، وغير ذلك من الفظائع الشائعة في الأمم الجاهلة ، والمتفشية في الأقوام المنحطة.
وتوقفك على قيمة أعمالهم ، وخدماتهم التي قدموها إلى المجتمع الإنساني ملاحظة البيئات التي لم يبلغ إليها نور النبوة ودعوة الأنبياء ، فهم على وحشيتهم الأولى ، وجاهليتهم الجهلاء ، فما صعدوا مرقاة الكمال درجة واحدة.
فإذا كان العمل هذه قيمته ، وهذه نتيجته فلا يصح تقويمه بزخارف الدنيا ، وملاذ الحياة ، وخاصة إذا لاحظنا أنّ عمل الأنبياء في مجال الدعوة كان مقروناً بالتضحية ، وبذل النفوس والأموال ، وترك الأوطان ، وتحمّل الشدائد والمصائب والدفاع عن الرسالة بأفلاذ أكبادهم ، فهل يمكن أن تقدّر تلكم التضحيات الجسام بالدراهم والدنانير ، أو بالمناصب والمقامات ؟!
__________________
(١) يس : ٢٠ ـ ٢١.