أطعمة فاخرة ، لا يكون مثلها في بيتنا سريعا ـ فجئت بأنواع كثيرة من الطعام. فوضعته بين يديه ، فمد يده وأخذ لقمة ، فرفعها إلى فيه ، فرأيته يلوكها ولا يزدردها ، فوثب وخرج وما كلمني ، فلما كان الغد لقيته ، فقلت : يا عم سررتني ثم نغصت عليّ؟ قال : يا بني أما الفاقة فكانت شديدة ، وقد اجتهدت في أن أنال من الطعام الذي قدمته إلىّ ولكن بيني وبين الله علامة إذا لم يكن الطعام مرضيا ارتفع إلى أنفي منه زفرة فلم تقبله نفسي ، فقد رميت تلك اللقمة في دهليزكم وخرجت.
أنبأنا أبو نعيم ، أخبرني جعفر الخلدي ـ في كتابه ـ قال : سمعت الجنيد يقول : مات أبو حارث المحاسبي يوم مات وإن الحارث لمحتاج إلى دانق فضة ـ وخلف مالا كثيرا. وما أخذ منه حبة واحدة وقال : أهل ملتين لا يتوارثان ، وكان أبوه واقفيّا.
أنبأنا أبو نعيم : قال : سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول : سمعت أبا عليّ بن خيران الفقيه يقول : رأيت أبا عبد الله الحارث بن أسد بباب الطاق في وسط الطريق متعلقا بأبيه ، والناس قد اجتمعوا عليه يقول له : طلق أمي فإنك على دين وهي على غيره؟
قلت : وكان أحمد بن حنبل يكره لحارث نظره في الكلام ، وتصانيفه الكتب فيه ، ويصد الناس عنه.
أخبرني محمّد بن أحمد بن يعقوب ، أنبأنا محمّد بن نعيم الضّبّيّ قال : سمعت الإمام أبا بكر أحمد بن إسحاق ـ يعني الصبغي ـ يقول : سمعت إسماعيل بن إسحاق السّرّاج يقول : قال لي أحمد بن حنبل يوما : يبلغني أن الحارث هذا ـ يعني المحاسبي ـ يكثر الكون عندك ، فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني فأسمع كلامه؟ فقلت : السمع والطاعة لك يا أبا عبد الله ، وسرني هذا الابتداء من أبي عبد الله ، فقصدت الحارث وسألته أن يحضرنا تلك الليلة ، فقلت وتسل أصحابك أن يحضروا معك ، فقال : يا إسماعيل فيهم كثرة فلا تزدهم على الكتب والتمر ، وأكثر منهما ما استطعت ، ففعلت ما أمرني به ، وانصرفت إلى أبي عبد الله فأخبرته ، فحضر بعد المغرب وصعد غرفة في الدار ، فاجتهد في ورده إلى أن فرغ ، وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا ، ثم قاموا لصلاة العتمة ولم يصلوا بعدها ، وقعدوا بين يدي الحارث ، وهم سكون لا ينطق واحد منهم إلى قريب من نصف الليل ، فابتدأ واحد منهم وسأل الحارث عن مسألة ، فأخذ في الكلام وأصحابه يستمعون ، وكأنّ على رءوسهم الطير ،