ممثلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته ، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس ، وبين كون عمله مجسماً وممثلاً لهذا الظن في كل من رآه وشاهده ؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.
ومنها : قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة ، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة ، ولما خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم ، ضيّق عليهم النبي ، فلجأوا إلى حصونهم ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (١).
فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة ؟ هل كانوا يظنون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله ؟ فإنّ ذلك بعيد جداً ، فانّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير انّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوته كان يحكي عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.
ولذلك نظائر في المحاورات العرفية فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها ، والبانين للقصور المشيدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة ، وانّ الموت كأنّه كتب على غيرهم ، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكن بالمعنى الذي عرفت أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن ، ومصدر هذه النسبة.
وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة
__________________
(١) الحشر : ٢.