وثالثا : ليست البيعة جهة تعليليّة للرضا لعدم تعقّل تعلّق الرّضا التّشريعي بالذّات ، بل هي ترجع إلى جهة تقييديّة فيكون المرضى هو العمل ، أي : أنّ الله رضي عن بيعتكم. وعليه لا يثبت من مثل هذا الرضا عدالة المبايعين ولا صداقتهم ولا بقائهم على إيمان حتّى الموت ، فإنّ قبول عمل عند الله لا يستلزم شيئا منها ، فتأمّل.
نعم إن قلنا : بأنّ رضائه تعالى ليس كرضانا ، حيث هو من صفاتنا النّفسيّة لاستحالة كونه تعالى جسما وجسمانيّا ومحلّا للحوادث ، فرضائه ثوابه ، وغضبه وسخطه عقابه ، وصحّ كون البيعة جهة تعليليّة ، ويناسبه قوله تعالى : (... وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً* وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها ...) لكنّه أيضا لا يدلّ على وثاقة المرضيّين أو عدالتهم ، بل مدلول الآية كلّه : انّ الله أثاب المؤمنين ؛ لأجل بيعتهم.
الثّاني : قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ ...).
المستفاد من الآية حسن حال السّابقين الأوّلين منهما ، فإنّ رضائه تعالى عنهم لم يقيّد بعمل خاصّ ، وقد اشتهر إنّ حذف المتعلّق يفيد العموم ، فما لم يدلّ دليل معتبر على كذب آحادهم نبني على صدقهم ؛ لأنّ الكاذب على الله ورسوله لا يكون مرضيّا لله ، ولا موعودا لإعداد الجنّة له.
وإذا وجد دليل على فساد بعضهم نقيّد إطلاق الآية أو نخصّص عمومها جمعا بين الأدلّة. (١)
نعم ، لا بدّ من إحراز إيمانهم ، فإنّ المراد بالسّابقين ـ بمقتضى الانصراف ظاهرا ـ السّابقون إلى الإيمان ، دون الصحبة ، إلّا أنّ يحتمل السّبقة إلى مجرّد الإقرار والانقياد ، وهو الإسلام بالمعنى الأعمّ من الإيمان.
الثالث : قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ...). ومن كان هذه صفاتهم يبعّد كذبهم وافترائهم على الله ورسوله ، لكن ذيل الآية يوضح صدرها فيسقط الاستدلال بها ، وهو قوله : (... وَعَدَ
__________________
(١) مرادنا من تقييد الإطلاق هو : ردّ كلّ خبر علم كذبه من بعض هؤلآء الأصحاب ، ومرادنا من التخصيص إخراج كلّ صحابي علم كذبه ، والفرق بينهما غير خفيّ ، إذ على الأوّل لا نقبل الخبر الكاذب من الصّحابي إذا علمنا كذبه ، ونقبل سائر أخباره ، وإن شكّ في صدقها وكذبها عملا بإطلاق الآية. وعلى الثّاني نخرج من علمنا كذبه في مورد من عموم الآية ، ونردّ جميع رواياته لعدم إحراز صدقه ، ثمّ المراد بالسّابقين من سبق إلى الإيمان ظاهرا.