عليه وعنده إسحاق الموصلي ، وكان العتابي شيخا جليلا نبيلا ، فسلم فرد عليه ، وأدناه وقربه ، حتى قرب منه فقبل يده ، ثم أمره بالجلوس فجلس ، وأقبل عليه فسأله عن حاله وهو يجيبه بلسان طلق ، فاستظرف المأمون ذلك منه وأقبل عليه بالمداعبة والمزح ، فظن الشيخ أنه استخف به فقال : يا أمير المؤمنين الإيناس قبل الإبساس ، فاشتبه على المأمون قوله ، فنظر إلى إسحاق مستفهما ، فأومأ إليه بعينه وغمزه على معناه حتى فهمه ، ثم قال : نعم ، يا غلام ألف دينار ، فأتى بذلك فوضعه بين يدي العتابي وأخذوا في الحديث ، ثم غمز المأمون إسحاق بن إبراهيم عليه ، فجعل العتابي لا يأخذ في شيء إلا عارضه فيه إسحاق ، فبقى العتابي متعجبا. ثم قال : يا أمير المؤمنين أتأذن لي في مسألة هذا الشيخ عن اسمه ، قال نعم سله ، فقال لإسحاق يا شيخ من أنت وما اسمك؟ قال أنا من الناس ، واسمي كل بصل. فتبسم العتابي ثم قال : أما النسب فمعروف ، وأما الاسم فمنكر ، فقال له إسحاق : ما أقل إنصافك ، أتنكر أن يكون اسمي كل بصل ، واسمك كل ثوم وما كلثوم من الأسماء؟ أوليس البصل أطيب من الثوم ، قال له العتابي لله درك ما أحجك ، أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أصله بما وصلتني به؟ فقال له المأمون : بل ذلك موفر عليك ، ونأمر له بمثله. فقال له إسحاق : أما إذ أقررت بهذه فتوهمني تجدني. فقال له : ما أظنك إلا إسحاق الموصلي الذي يتناهى إلينا خبره؟ قال : أنا حيث ظننت. فأقبل عليه بالتحية والسلام. فقال المأمون ـ وقد طال الحديث بينهما ـ أما إذا اتفقتما على المودة فانصرفا. فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده.
وأخبرنا النعالي ، أخبرنا أبو الفرج الأصبهانيّ ، أخبرني إبراهيم بن أيّوب عن عبد الله بن مسلم قال أبو الفرج وأخبرني عليّ بن سليمان عن محمّد بن يزيد قالا جميعا : كتب المأمون في اشخاص كلثوم بن عمرو العتابي فلما دخل عليه قال له يا كلثوم بلغتني وفاتك فساءتني ، ثم بلغتني وفادتك فسرتني. فقال له العتابي : يا أمير المؤمنين لو قسمت هاتان الكلمتان على أهل الأرض لوسعتاهم فضلا وإنعاما ، وقد خصصتني منهما بما لا يتسع له أمنية ، ولا ينبسط لسواه أمل ، لأنه لا دين إلا بك ، ولا دنيا إلا معك. قال : سلني ، قال: يدك بالعطاء أطلق من لساني بالسؤال ، فوصله صلات سنية ، وبلغ به من التقديم والإكرام أعلى محل.