والعدوان بين الأمة ، وهي أيضا إيماء إلى حد الضرورة وهي الحاجة التي يشعر عندها من لم يكن دأبه البغي والعدوان بأنه سيبغي ويعتدي وهذا تحديد منضبط ، فإن الناس متفاوتون في تحمل الجوع ولتفاوت الأمزجة في مقاومته ، ومن الفقهاء من يحدد الضرورة بخشية الهلاك ومرادهم الإفضاء إلى الموت والمرض وإلّا فإن حالة الإشراف على الموت لا ينفع عندها الأكل ، فعلم أن نفي الإثم عن المضطر فيما يتناوله من هذه المحرمات منوط بحالة الاضطرار ، فإذا تناول ما أزال به الضرورة فقد عاد التحريم كما كان ، فالجائع يأكل من هاته المحرمات إن لم يجد غيرها أكلا يغنيه عن الجوع وإذا خاف أن تستمر به الحاجة كمن توسط فلاة في سفر أن يتزود من بعض هاته الأشياء حتى إن استغنى عنها طرحها ، لأنه لا يدري هل يتفق له وجدانها مرة أخرى.
ومن عجب الخلاف بين الفقهاء أن ينسب إلى أبي حنيفة والشافعي أنّ المضطرّ لا يشبع ولا يتزود خلافا لمالك في ذلك والظاهر أنه خلاف لفظي والله تعالى يقول : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في معرض الامتنان فكيف يأمر الجائع بالبقاء على بعض جوعه ويأمر السائر بالإلقاء بنفسه إلى التهلكة إن لم يتزود ، وقد فسر قوله (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) بتفاسير أخرى فعن الشافعي أنه غير الباغي والعادي على الإمام لا عاص بسفره فلا رخصة له فلا يجوز له أكل ذلك عند الاضطرار فأجاب المالكية : بأن عصيانه بالسفر لا يقتضي أن يؤمر بمعصية أكبر وهي إتلاف نفسه بترك أكل ما ذكر وهو إلجاء مكين.
ومما اختلفوا في قياسه على ضرورة الجوع ضرورة التداوي ، فقيل لا يتداوى بهاته المحرمات ولا بشيء مما حرم الله كالخمر وهذا قول مالك والجمهور ، ولم يزل الناس يستشكلونه لاتحاد العلة وهي حفظ الحياة ، وعندي أن وجهه أن تحقق العلة فيه منتف إذ لم يبلغ العلم بخصائص الأدوية ظن نفعها كلها إلّا ما جرب منها ، وكم من أغلاط كانت للمتطببين في خصائص الدواء ، ونقل الفخر عن بعضهم إباحة تناول المحرمات في الأدوية ، وعندي أنه إذا وقع قوة ظن الأطباء الثقات بنفع الدواء المحرم من مرض عظيم وتعينه أو غلب ذلك في التجربة فالجواز قياسا على أكل المضطر وإلّا فلا (١).
__________________
(١) انظر : «حاشية ابن عابدين» (٤ / ١١٣ ، ٢١٥) ، «حاشية الدسوقي» (٤ / ٣٥٣ ، ٣٥٤) ، «الفواكه الدواني» (٢ / ٤٤١) ، «حواشي الشرواني وابن قاسم على «التحفة» (٩ / ١٧٠) «قليوبي وعميرة» (٣ / ٢٠٣) ، «كشاف القناع» (٢ / ٧٦ ، ٦ / ١١٦ ، ٢٠٠) ، «الإنصاف» (٢ / ٤٦٣ ، ٤٧٤) ، «الفروع» (٢ / ١٦٥) وما بعدها.