كالقول في نظيره وهو (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) [البقرة : ١٧٤] ونكتة تكريره أنه للتنبيه على أن المشار إليه جدير بأحكام أخرى غير الحكم السابق وأن تلك الأحكام لأهميتها ينبغي ألا تجعل معطوفة تابعة للحكم الأول بل تفرد بالحكمية.
وإن جعلته مبتدأ مستقلا مع جملته فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان سبب انغماسهم في عذاب النار ؛ لأنه وعيد عظيم جدا يستوجب أن يسأل عنه السائل فيبين بأنهم أخذوا الضلال ونبذوا الهدى واختاروا العذاب ونبذوا المغفرة ، ومجيء المسند إليه حينئذ اسم إشارة لتفظيع حالهم ؛ لأنه يشير لهم بوصفهم السابق وهو كتمان ما أنزل الله من الكتاب.
ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى في كتمان الكتاب أن كل آية أخفوها أو أفسدوها بالتأويل فقد ارتفع مدلولها المقصود منها وإذا ارتفع مدلولها نسي العمل بها فأقدم الناس على ما حذرتهم منه ، ففي كتمانهم حق رفع وباطل وضع.
ومعنى اشتراء العذاب بالمغفرة أنهم فعلوا ذلك الكتمان عن عمد وعلم بسوء عاقبته ، فهم قد رضوا بالعذاب وإضاعة المغفرة فكأنهم استبدلوا بالمغفرة العذاب. والقول في معنى (اشْتَرَوُا) تقدم عند قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١].
وقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجيب من شدة صبرهم على عذاب النار ، ولما كان شأن التعجيب أن يكون ناشئا عن مشاهدة صبرهم على العذاب وهذا الصبر غير حاصل في وقت نزول هاته الآية بني التعجيب على تنزيل غير الواقع منزلة الواقع لشدة استحضار السامع إياه بما وصف به من الصفات الماضية ، وهذا من طرق جعل المحقق الحصول في المستقبل بمنزلة الحاصل ، ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وتنزيل المتخيل منزلة المشاهد كقول زهير :
تبصّر خليلي هل ترى من ظعائن |
|
تحملن بالعلياء من فوق جرثم |
بعد أن ذكر أنه وقف بالدار بعد عشرين حجة ، وقول مالك بن الرّيب :
دعاني الهوى من أهل ودّي وجيرتي |
|
بذي الطّبسين فالتفتّ ورائيا |
وقريب منه قوله تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) [التكاثر : ٥ ـ ٦] على جعل (لَتَرَوُنَ) جواب (لَوْ).