وصفين إذ لم يسمع لهما أفعل مذكّرا ، والبأساء مشتقة من البؤس وهو سوء الحالة من فقر ونحوه من المكروه ، قال الراغب : وقد غلب في الفقر ومنه البئيس الفقير ، فالبأساء الشدة في المال ، والضراء شدة الحال على الإنسان مشتقة من الضّرّ ويقابلها السّرّاء وهي ما يسرّ الإنسان من أحواله ، والبأس النكاية والشدة في الحرب ونحوها كالخصومة (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) [النمل : ٣٣] (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) [الحشر : ١٤] والشر أيضا بأس والمراد به هنا الحرب.
فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم. وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشئ عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال.
فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية ، لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها ، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها ، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة ويبذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحرارا. والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس ، وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض.
والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة ولذلك قال تعالى هنا : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) فحصر فيهم الصدق والتقوى حصرا ادعائيا للمبالغة ، ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر ، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم ، لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيئين ، ولأنهم حرموا كثيرا من الناس حقوقهم ، ولم يفوا بالعهد ، ولم يصبروا. وفيها أيضا تعريض بالمشركين إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر ، والنبيئين ، والكتب وسلبوا اليتامى أموالهم ، ولم يقيموا الصلاة ، ولم يؤتوا الزكاة.
ونصب (الصابرين) وهو معطوف على مرفوعات نصب على الاختصاص على ما هو المتعارف في كلام العرب في عطف النعوت من تخيير المتكلم بين الاتباع في الإعراب للمعطوف عليه وبين القطع قاله الرضي ، والقطع يكون بنصب ما حقه أن يكون مرفوعا أو مجرورا وبرفع ما هو بعكسه ليظهر قصد المتكلم القطع حين يختلف الإعراب ؛ إذ لا يعرف أن المتكلم قصد القطع إلّا بمخالفة الإعراب ، فأما النصب فبتقدير فعل مدح أو ذم بحسب المقام ، والأظهر تقدير فعل أخص لأنه يفيد المدح بين الممدوحين والذم بين المذمومين.