دوانا بأن يجرح ذلك الجارح مثل ما جرح غيره قصاصا قال تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة : ٤٥] وسموا معاملة المعتدي بمثل جرمه قصاصا (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [البقرة : ١٩٤] ، فماهية القصاص تتضمن ماهية التعويض والتماثل.
فقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) يتحمّل معنى الجزاء على القتل بالقتل للقاتل وتتحمل معنى التعادل والتماثل في ذلك الجزاء بما هو كالعوض له والمثل ، وتتحمل معنى أنه لا يقتل غير القاتل ممن لا شركة له في قتل القتيل فأفاد قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) حق المؤاخذة بين المؤمنين في قتل القتلى فلا يذهب حق قتيل باطلا ولا يقتل غير القاتل باطلا ، وذلك إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إهمال دم الوضيع إذا قتله الشريف وإهمال حق الضعيف إذا قتله القوي الذي يخشى قومه ، ومن تحكّمهم بطلب قتل غير القاتل إذا قتل أحد رجلا شريفا يطلبون قتل رجل شريف مثله بحيث لا يقتلون القاتل إلّا إذا كان بواء للمقتول أي كفءا له في الشرف والمجد ويعتبرون قيمة الدماء متفاوتة بحسب تفاوت السودد والشرف ويسمون ذلك التفاوت تكايلا من الكيل ، قالت ابنة بهدل بن قرفة الطائي تستثير رهطها على قتل رجل قتل أباها وتذكر أنها ما كانت تقنع بقتله به لو لا أن الإسلام أبطل تكايل الدماء :
أما في بني حصن من ابن كريهة |
|
من القوم طلّاب التّرات غشمشم |
فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له |
|
بواء ولكن لا تكايل بالدّم (١) |
قال النبي صلىاللهعليهوسلم «المسلمون تتكافأ دماؤهم».
وقد ثبت بهذه الآية شرع القصاص في قتل العمد ، وحكمة ذلك ردع أهل العدوان عند الإقدام على قتل الأنفس إذا علموا أن جزاءهم القتل ، فإن الحياة أعز شيء على الإنسان في الجبلة فلا تعادل عقوبة القتل في الردع والانزجار ، ومن حكمة ذلك تطمين أولياء القتلى بأن القضاء ينتقم لهم ممّن اعتدى على قتيلهم قال تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) [الإسراء : ٣٣] أي لئلا يتصدى أولياء القتيل للانتقام من قاتل مولاهم بأنفسهم ؛ لأن ذلك يفضي إلى صورة الحرب بين رهطين فيكثر فيه إتلاف الأنفس كما تقدم في الكلام على صدر الآية ، ويأتي عند قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩].
__________________
(١) جبر هو اسم قاتل أبيها.