لترغيب في المصالحة عن الدماء ، وينبغي ألا نذهب بأفهام الناظر طرائق قددا ، فالقول الفصل أن نقول : إن ما صدق من في قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) هو ولي المقتول وإن المراد بأخيه هو القاتل وصفا بأنه أخ تذكيرا بأخوة الإسلام وترقيقا لنفس ولي المقتول ؛ لأنه إذا اعتبر القاتل أخا له كان من المروءة ألا يرضى بالقود منه ؛ لأنه كمن رضي بقتل أخيه ، ولقد قال بعض العرب : قتل أخوه ابنا له عمدا فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف وقال :
أقول للنفس تأساء وتعزية |
|
إحدى يديّ أصابتني ولم ترد |
كلاهما خلف من فقد صاحبه |
|
هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي |
وما صدق (شَيْءٌ) هو عرض الصلح ، ولفظ شيء اسم متوغل في التنكير دال على نوع ما يصلح له سياق الكلام ، وقد تقدم حسن موقع كلمة شيء عند قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) [البقرة : ١٥٥].
ومعنى (عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ) أنه أعطى العفو أي الميسور على القاتل من عوض الصلح. ومن معاني العفو أنه الميسور من المال الذي لا يجحف بباذله وقد فسر به العفو من قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف : ١٩٩] ، وإيثار هذا الفعل لأنه يؤذن بمراعاة التيسير والسماحة وهي من خلق الإسلام فهذا تأكيد للترغيب الذي دل عليه قوله : (مِنْ أَخِيهِ) ، والتعبير عن عوض الدم بشيء لأن العوض يختلف فقد يعرض على ولي الدم مال من ذهب أو فضة وقد يعرض عليه إبل أو عروض أو مقاصة دماء بين الحيين ؛ إذ ليس العوض في قتل العمد معينا كما هو في دية قتل الخطأ.
(واتّباع) و (أداء) مصدران وقعا عوضا عن فعلين والتقدير : فليتبع اتباعا وليؤد أداء فعدل عن أن ينصب على المفعولية المطلقة إلى الرفع لإفادة معنى الثبات والتحقيق الحاصل بالجملة الاسمية كما عدل إلى الرفع في قوله تعالى : (قالَ سَلامٌ) [هود : ٦٩] بعد قوله : (قالُوا سَلاماً) [هود : ٦٩] ، وقد تقدم تطور المصدر الذي أصله مفعول مطلق إلى مصيره مرفوعا عند قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] ، فنظم الكلام : فاتباع حاصل ممن عفي له من أخيه شيء وأداء حاصل من أخيه إليه ، وفي هذا تحريض لمن عفي له على أن يقبل ما عفي له وتحريض لأخيه على أداء ما بذله بإحسان. والاتباع مستعمل في القبول والرضا ، أي فليرض بما عفي له كقول النبيصلىاللهعليهوسلم : «وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع».
والضمير المقدر في (اتباع) عائد إلى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) والضمير المقدر في أداء عائد