فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفا على إيصاء الميت له بل صار حقه ثابتا معينا رضي الميت أم كره ، فيكون تقرر حكم الوصية في أول الأمر استئناسا لمشروعية فرائض الميراث ، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] فجعلها وصية نفسه سبحانه إبطالا للمنة التي كانت للموصي.
وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء ، الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد ، ففي البخاري في تفسير سورة النساء عن جابر بن عبد الله قال : عادني النبي وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليّ فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] الآية ا ه. فدل على أن آخر عهد بمشروعية الوصايا سؤال جابر بن عبد الله ، وفي البخاري عن ابن عباس كان المال وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب إلخ.
وقيل نسخت مشروعية الوصية فصارت ممنوعة قاله إبراهيم بن خثيم وهو شذوذ وخلاف لما اشتهر في السنة إلّا أن يريد بأنها صارت ممنوعة للوارث.
وقيل : الآية محكمة لم تنسخ والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبدين والأقارب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاوس واختاره الطبري ، والأصح هو الأول.
ثم القائلون ببقاء حكم الوصية بعد النسخ منهم من قال : إنها بقيت مفروضة للأقربين الذين لا يرثون وهذا قول الحسن وطاوس والضحاك والطبري لأنهم قالوا : هي غير منسوخة ، وقال به ممن قال إنها منسوخة ابن عباس ومسروق ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد ، ومنهم من قال : بقيت مندوبة للأقربين وغيرهم وهذا قول الجمهور إلّا أنه إذا كان أقاربه في حاجة ولم يوص لهم فبئس ما صنع ولا تبطل الوصية ، وقيل تختص بالقرابة لو أوصى لغيرهم بطلت وترد على أقاربه قاله جابر بن زيد والشعبي وإسحاق بن راهويه والحسن البصري ، والذي عليه قول من تعتمد أقوالهم أن الوصية لغير الوارث إذا لم يخش بتركها ضياع حق أحد عند الموصي مطلوبة ، وأنها مترددة بين الوجوب والسنة المؤكدة لحديث «لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيته