وقوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ) عطف على قوله : (بَاشِرُوهُنَ) لقصد أن يكون المعتكف صالحا. وأجمعوا على أنه لا يكون إلّا في المسجد لهاته الآية ، واختلفوا في صفة المسجد فقيل لا بد من المسجد الجامع وقيل مطلق مسجد وهو التحقيق وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهمالله ، وأحكامه في كتب الفقه وليست من غرض هذا المفسر.
(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
تذييل بالتحذير من مخالفة ما شرع إليه من أحكام الصيام. فالإشارة إلى ما تقدم ، والإخبار عنها بالحدود عيّن أن المشار إليه هو التحديدات المشتمل عليها الكلام السابق وهي قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ) وقوله : (إِلَى اللَّيْلِ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ) من كل ما فيه تحديد يفضي تجاوزه إلى معصية ، فلا يخطر بالبال دخول أحكام الإباحة في الإشارة مثل : (أُحِلَّ لَكُمْ) ومثل (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ).
والحدود الحواجز ونهايات الأشياء التي إذا تجاوزها المرء دخل في شيء آخر ، وشبهت الأحكام بالحدود لأن تجاوزها يخرج من حل إلى منع وفي الحديث «وحدّ حدودا فلا تعتدوها» ، وستأتي زيادة بيان له في قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها).
وقوله : (فَلا تَقْرَبُوها) نهى عن مقاربتها الموقعة في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالبا كما قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام : ١٥٢] ، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩]. كما سيأتي هنالك وفي معنى الآية حديث «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه».
والقول في : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) تقدم نظيره في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] أي كما بين الله أحكام الصيام يبين آياته للناس أي جميع آياته لجميع الناس ، والمقصد أن هذا شأن الله في إيضاح أحكامه لئلا يلتبس شيء منها على الناس ، وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ، أي إرادة لاتقائهم الوقوع في المخالفة ، لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الامتثال ، أو لعلهم يلتبسون بغاية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية ، إذ لو لم يبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها ؛ وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير