جعلوا من أحكام الإحرام ألا يدخل المحرم بيته من بابه أو لا يدخل تحت سقف يحول بينه وبين السماء ، وكان المحرمون إذا أرادوا أخذ شيء من بيوتهم تسنّموا على ظهور البيوت أو اتخذوا نقبا في ظهور البيوت إن كانوا من أهل المدر ، وإن كانوا من أهل الخيام دخلوا من خلف الخيمة ، وكان الأنصار يدينون بذلك ، وأما الحمس فلم يكونوا يفعلون هذا ، والحمس جمع أحمس والأحمس المتشدد بأمر الدين لا يخالفه ، وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو نصر ابن معاوية ومدلج وعدوان وعضل وبنو الحارث بن عبد مناة ، وبنو عامر بن صعصعة وكلهم من سكان مكة وحرمها ما عدا بني عامر بن صعصعة فإنهم تحمسوا لأن أمهم قرشية.
ومعنى نفي البر عن هذا نفي أن يكون مشروعا أو من الحنيفية ، وإنما لم يكن مشروعا لأنه غلو في أفعال الحج ، فإن الحج وإن اشتمل على أفعال راجعة إلى ترك الترفه عن البدن كترك المخيط وترك تغطية الرأس إلّا أنه لم يكن المقصد من تشريعه إعنات الناس بل إظهار التجرد وترك الترفه ، ولهذا لم يكن الحمس يفعلون ، ذلك لأنهم أقرب إلى دين إبراهيم ، فالنفي في قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ) نفي جنس البر عن هذا الفعل بخلاف قوله المتقدم (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) [البقرة : ١٧٧] والقرينة هنا هي قوله : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) ولم يقل هنالك : واستقبلوا أية جهة شئتم ، والمقصود من الآيتين إظهار البر العظيم وهو ما ذكر بعد حرف الاستدراك في الآيتين بقطع النظر عما نفي عنه البر ، وهذا هو مناط الشبه والافتراق بين الآيتين.
روى الواحدي في «أسباب النزول» أن النبي صلىاللهعليهوسلم أهلّ عام الحديبية من المدينة وأنه دخل بيتا وأن أحدا من الأنصار ، قيل : اسمه قطبة بن عامر وقيل : رفاعة بن تابوت. كان دخل ذلك البيت من بابه اقتداء برسول الله فقاله له النبي صلىاللهعليهوسلم : لم دخلت وأنت قد أحرمت؟ فقال له الأنصاري : دخلت أنت فدخلت بدخولك فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : إني أحمس فقال له الأنصاري : وأنا ديني دينك رضيت بهداك فنزلت الآية ، فظاهر هذه الروايات أن الرسول نهى غير الحمس عن ترك ما كانوا يفعلونه حتى نزلت الآية في إبطاله ، وفي «تفسير ابن جرير وابن عطية» عن السدي ما يخالف ذلك وهو أن النبي صلىاللهعليهوسلم دخل بابا وهو محرم وكان معه رجل من أهل الحجاز فوقف الرجل وقال : إني أحمس فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : وأنا أحمس فنزلت الآية ، فهذه الرواية تقتضي أن النبي أعلن إبطال دخول البيوت من ظهورها.