وقوله : (فَأْتُوهُنَ) الأمر هنا للإباحة لا محالة لوقوعه عقب النهي مثل (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] عبر بالإتيان هنا وهو شهير في التكني به عن الوطء لبيان أن المراد بالقربان المنهي عنه هو الذي المعنى الكنائي فقد عبر بالاعتزال ثم قفّي بالقربان ثم قفي بالإتيان ومع كل تعبير فائدة جديدة وحكم جديد وهذا من إبداع الإيجاز في الإطناب.
وقوله : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) حيث اسم مكان مبهم مبني على الضم ملازم الإضافة إلى جملة تحدده لزوال إبهامها ، وقد أشكل المراد من هذا الظرف على الذين تصدوا لتأويل القرآن وما أرى سبب إشكاله إلا أن المعنى قد اعتاد العرب في التعبير عنه سلوك طريق الكناية والإغماض وكان فهمه موكولا إلى فطنهم ومعتاد تعبيرهم. فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع أي إلا من حيث أمركم الله بأن تعتزلوهن منه مدة الحيض يعني القبل قال القرطبي (من) بمعنى في ونظره بقوله تعالى : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [الأحقاف : ٤] وقوله : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة : ٩] ، وعن ابن عباس وأبي رزين مسعود بن مالك والسّدي وقتادة أن المعنى : من الصفة التي أمركم الله وهي الطهر ، فحيث مجاز في الحال أو السبب و (من) لابتداء الأسباب فهي بمعنى التعليل.
والذي أراه أن قوله : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) قد علم السامعون منه أنه أمر من الله كان قد حصل فيما قبل ، وأما (حيث) فظرف مكان وقد تستعمل مجازا في التعليل فيجوز أن المراد بأمر الله أمره الذي تضمنته الغاية ب (حتى) في قوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) لأن غاية النهي تنتهي إلى الإباحة فالأمر هو الإذن ، و (من) للابتداء المجازي ، و (حيث) مستعملة في التعليل مجازا تخييليا أي لأن الله أمركم بأن تأتوهن عند انتهاء غاية النهي بالتطهر. أو المراد بأمر الله أمره الذي به أباح التمتع بالنساء وهو عقد النكاح ، فحرف (من) للتعليل والسببية ، و (حيث) مستعار للمكان المجازي وهو حالة الإباحة التي قبل النهي كأنهم كانوا محجوزين عن استعمال الإباحة أو حجر عليهم الانتفاع بها ثم أذن لهم باستعمالها فشبهت حالتهم بحالة من حبس عند مكان ثم أطلق سراحه فهو يأتي منه إلى حيث يريد. وعلى هذين المعنيين لا يكون في الآية ما يؤذن بقصد تحديد الإتيان بأن يكون في مكان النسل ، ويعضد هذين المعنيين تذييل الكلام بجملة : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) وهو ارتفاق بالمخاطبين بأن ذلك المنع كان لمنفعتهم ليكونوا متطهرين ، وأما ذكر التوابين فهو ادماج للتنويه بشأن التوبة عند ذكر ما يدل على امتثال ما