المدافعة اشتدادا عند زيادة توقع الأخطار حتى في الحيوان. وما جعله الله في كل أنواع الموجودات من أسباب الأذى لمريد السوء به أدل دليل على أن الله خلقها لإرادة بقائها ، وقد عوّض الإنسان عما وهبه إلى الحيوان العقل والفكرة في التحيل على النجاة ممن يريد به ضررا ، وعلى إيقاع الضر بمن يريده به قبل أن يقصده به ، وهو المعبر عنه بالاستعداد.
ثم إنه تعالى جعل لكل نوع من الأنواع ، أو فرد من الأفراد خصائص فيها منافع لغيره ولنفسه ليحرص كل على إبقاء الآخر ، فهذا ناموس عام ، وجعل الإنسان بما أودعه من العقل هو المهيمن على بقية الأنواع. وجعل له العلم بما في الأنواع من الخصائص ، وبما في أفراد نوعه من الفوائد. فخلق الله تعالى أسباب الدفاع بمنزلة دفع من الله يدفع مريد الضر بوسائل يستعملها المراد إضراره ، ولو لا هذه الوسائل التي خولها الله تعالى أفراد الأنواع ، لاشتد طمع القوي في إهلاك الضعيف ، ولاشتدت جراءة من يجلب النفع إلى نفسه على منافع يجدها في غيره ، فابتزها منه ، ولأفرطت أفراد كل نوع في جلب النافع الملائم إلى أنفسها بسلب النافع الملائم لغيرها ، مما هو له ، ولتناسى صاحب الحاجة حين الاحتياج ما في بقاء غيره من المنفعة له أيضا. وهكذا يتسلط كل ذي شهوة على غيره ، وكل قوي على ضعيفه ، فيهلك القوي الضعيف ، ويهلك الأقوى القويّ ، وتذهب الأفراد تباعا ، والأنواع كذلك حتى لا يبقى إلّا أقوى الأفراد من أقوى الأنواع ، وذلك شيء قليل ، حتى إذا بقي أعوزته حاجات كثيرة لا يجدها في نفسه ، وكان يجدها في غيره من أفراد نوعه ، كحاجة أفراد البشر بعضهم إلى بعض ، أو من أنواع أخر ، كحاجة الإنسان إلى البقرة ، فيذهب هدرا.
ولما كان نوع الإنسان هو المهيمن على بقية موجودات الأرض وهو الذي تظهر في أفراده جميع التطورات والمساعي ، خصته الآية بالكلام فقالت : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) إذ جعل الله في الإنسان القوة الشاهية لبقائه وبقاء نوعه ، وجعل فيه القوة الغاضبة لرد المفرط في طلب النافع لنفسه ، وفي ذلك استبقاء بقية الأنواع ؛ لأن الإنسان يذب عنها لما في بقائها من منافع له. وبهذا الدفاع حصلت سلامة القوي ، وهو ظاهر ، وسلامة الضعيف أيضا لأن القوي إذا وجد التعب والمكدرات في جلب النافع سئم ذلك ، واقتصر على ما تدعو إليه الضرورة. وإنما كان الحاصل هو الفساد ، لو لا الدفاع ، دون الصلاح ، لأن الفساد كثيرا ما تندفع إليه القوة الشاهية بما يوجد في أكثر المفاسد من اللذات العاجلة القصيرة الزمن ، ولأن في كثير من النفوس أو أكثرها