على الإسلام ، وفي الحديث : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها». ولا جائز أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل ابتداء القتال كله ، فالظاهر أنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة واستخلاص بلاد العرب ، إذ يمكن أن يدوم نزول السورة سنين كما قدمناه في صدر تفسير سورة الفاتحة لا سيما وقد قيل بأنّ آخر آية نزلت هي في سورة النساء [١٧٦] (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) الآية ، فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبّر عنه بالذمة ، ووضحه عمل النبي صلىاللهعليهوسلم وذلك حين خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في الدين أفواجا حين جاءت وفود العرب بعد الفتح ، فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملّة إبراهيم ، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين ، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحمل هذا الدين وحماية بيضته ، وتبيّن هدى الإسلام وزال ما كان يحول دون اتّباعه من المكابرة ، وحقّق الله سلامه بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة حجة الوداع «إنّ الشيطان قد يئس من أن يعبد في بلدكم هذا» لمّا تم ذلك كله أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه ، ولذلك قال (سورة التوبة ٢٩) (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) ، وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدّم من آيات القتال مثل قوله قبلها (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣] على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة :
أحدها : آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ، وقوله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) [البقرة : ١٩٤] ، وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين.
النوع الثاني : آيات أمرت بقتال المشركين والكفّار ولم تغيّ بغاية ، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيّدا بغاية آية (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) [التوبة : ٢٩] وحينئذ فلا تعارضه آيتنا هذه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).
النوع الثالث : ما غيّي بغاية كقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٣] ، فيتعين أن يكون منسوخا بهاته الآية وآية (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)