ومثّل حال الذي ينفق ماله رئاء الناس المشبه به ـ تمثيلا يسري إلى الذين يتبعون صدقاتهم بالمنّ والأذى بقوله : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) إلخ ـ وضمير مثله عائد إلى الذي ينفق ماله رئاء للناس ، لأنّه لما كان تمثيلا لحال المشبّه به كان لا محالة تمثيلا لحال المشبّه ، ففي الكلام ثلاثة تشبيهات.
مثّل حال الكافر الذي ينفق ماله رئاء الناس بحال صفوان عليه تراب يغشيه ، يعني يخاله الناظر تربة كريمة صالحة للبذر ، فتقدير الكلام عليه تراب صالح للزرع فحذفت صفة التراب إيجازا اعتمادا على أنّ التراب الذي يرقب الناس أن يصيبه الوابل هو التراب الذي يبذرون فيه ، فإذا زرعه الزارع وأصابه وابل وطمع الزارع في زكاء زرعه ، جرفه الماء من وجه الصفوان فلم يترك منه شيئا وبقي مكانه صلدا أملس فخاب أمل زارعه.
وهذا أحسن وأدقّ من أن نجعل المعنى تمثيل إنفاق الكافر بحال تراب على صفوان أصابه وابل فجرفه ، وأنّ وجه الشبه هو سرعة الزوال وعدم القرار كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [إبراهيم : ١٨] فإنّ مورد تلك الآية مقام آخر.
ولك (١) أن تجعل كاف التشبيه في قوله تعالى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ) صفة لمصدر محذوف دل عليه ما في لفظ صدقاتهم من معنى الإنفاق وحذف مضاف بين الكاف وبين اسم الموصول ، والتقدير إنفاقا كإنفاق الذي ينفق ماله رئاء الناس.
وقد روعي في هذا التمثيل عكس التمثيل لمن ينفق ماله في سبيل الله بحبّة أغلّت سبعمائة حبّة.
فالتشبيه تشبيه مركب معقول بمركب محسوس. ووجه الشبه الأمل في حالة تغر بالنفع
ثم لا تلبث ألّا تأتي لآملها بما أمّله فخاب أمله. ذلك أنّ المؤمنين لا يخلون من رجاء حصول الثواب لهم من صدقاتهم ، ويكثر أن تعرض الغفلة للمتصدّق فيتبع صدقته بالمنّ والأذى اندفاعا مع خواطر خبيثة.
وقوله : (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أوقع موقعا بديعا من نظم الكلام تنهال به معان كثيرة فهو بموقعه كان صالحا لأن يكون حالا من الذي ينفق ماله رئاء الناس
__________________
(١) هذا مقابل قولنا في الصفحة السابقة «هو حال من ضمير تبطلوا».