الذين يبطلون صدقاتهم بالمنّ والأذى ، ومنهم الذين يتيمّمون الخبيث منه ينفقون ، ومنهم من يعدهم الشيطان الفقر ويأمرهم بالفحشاء. وكان وجود هذه الفرق مما يثقل على النبي صلىاللهعليهوسلم ، فعقّب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هداهم ولكن عليه البلاغ. فالهدى هنا بمعنى الإلجاء لحصول الهدي في قلوبهم ، وأما الهدى بمعنى التبليغ والإرشاد فهو على النّبيء ، ونظائر هذا في القرآن كثيرة. فالضمير راجع إلى جميع من بقي فيهم شيء من عدم الهدى وأشدّهم المشركون والمنافقون ، وقيل الضمير راجع إلى ناس معروفين ، روي أنّه كان لأسماء ابنة أبي بكر أمّ كافرة وجدّ كافر فأرادت أسماء ـ عام عمرة القضية ـ أن تواسيهما بمال ، وأنّه أراد بعض الأنصار الصدقة على قرابتهم وأصهارهم في بني النضير وقريظة ، فنهى النبي صلىاللهعليهوسلم المسلمين عن الصدقة على الكفّار ، إلجاء لأولئك الكفّار على الدّخول في الإسلام ، فأنزل الله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) الآيات ، أي هدى الكفّار إلى الإسلام ، أي فرخّص للمسلمين الصدقة على أولئك الكفرة.
فالضمير عائد إلى معلوم للمخاطب. فيكون نزول الآية لذلك السبب ناشئا عن نزول آيات الأمر بالإنفاق والصدقة ، فتكون الآيات المتقدمة سبب السبب لنزول هذه الآية.
والمعنى أن ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد ، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء ؛ إذ لا هادي لمن يضلل الله ، وليس مثل هذا بميسّر للهدى.
والخطاب في (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) ظاهره أنّه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير هداهم. ويجوز أن يكون خطابا لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول ، أي ليس عليك أيها المتردّد في إعطاء قريبك.
و (على) في قوله (عَلَيْكَ) للاستعلاء المجازي ، أي طلب فعل على وجه الوجوب. والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول ، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنّه أدّى واجب التبليغ ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيّها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء.
وتقديم الظرف وهو (عَلَيْكَ) على المسند إليه وهو (هُداهُمْ) إذا أجرى على ما تقرّر في علم المعاني من أنّ تقديم المسند الذي حقّه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند ، وكان ذلك في الإثبات بيّنا لا غبار عليه نحو (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦]