ما شرعت إلّا لأجل الإشهاد والتوثّق.
وقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا) أمر : قيل هو للوجوب ، وهذا قول أبي موسى الأشعري ، وابن عمر ، وأبي سعيد الخدري ، وسعيد بن المسيّب ، ومجاهد ، والضحّاك ، وعطاء ، وابن جريج ، والنخعي ، وجابر بن زيد ، وداود الظاهري ، والطبري. وقد أشهد النبيصلىاللهعليهوسلم على بيع عبد باعه للعداء بن خالد بن هوذة ، وكتب في ذلك «باسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما اشترى العدّاء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبدا لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم للمسلم» وقيل : هو للندب وذهب إليه من السلف الحسن ، والشعبي ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وتمسّكوا بالسنّة : أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم باع ولم يشهد ، قاله ابن العربي ، وجوابه : أنّ ذلك في مواضع الائتمان ، وسيجيء قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [البقرة : ٢٨٣] الآية وقد تقدم ما لابن عطية في توجيه عدم الوجوب وردّنا له عند قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ).
(وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ).
نهي عن المضارّة وهي تحتمل أن يكون الكاتب والشهيد مصدرا للإضرار ، أو أن يكون المكتوب له والمشهود له مصدرا للإضرار : لأن يضارّ يحتمل البناء للمعلوم وللمجهول ، ولعلّ اختيار هذه المادة هنا مقصود ، لاحتمالها حكمين ، ليكون الكلام موجّها فيحمل على كلا معنييه لعدم تنافيهما ، وهذا من وجه الإعجاز.
والمضارّة : إدخال الضرّ بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحرج والخسارة ، أو ما يجر إلى العقوبة ، وأن يوقع الشاهدان أحد المتعاقدين في إضاعة حق أو تعب في الإجابة إلى الشهادة. وقد أخذ فقهاؤنا من هاته الآية أحكاما كثيرة تتفرّع عن الإضرار : منها ركوب الشاهد من المسافة البعيدة ، ومنها ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنّة النسيان ، ومنها استفساره استفسارا يوقعه في الاضطراب ، ويؤخذ منها أنّه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود وإقامتهم في غير بلدهم وتعويض ما سينالهم من ذلك الانتقال من الخسائر المالية في إضاعة عائلاتهم ، إعانة على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة.
وقوله تعالى : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) حذف مفعول تفعلوا وهو معلوم ، لأنّه الإضرار المستفاد من لا يضارّ مثل «اعدلوا هو أقرب» والفسوق : الإثم العظيم ، قال تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [الحجرات : ١١].