عند جمهور علماء الأصول : أي تكرار الانكفاف عن فعل المنهيّ في أوقات عروض فعله ، ولو لا إفادته التكرار لما تحقّقت معصية ، وأنّ التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داع لفعل المنهيّ عنه ، فلذلك كان حقّا على من تحمّل شهادة بحقّ ألّا يكتمه عند عروض إعلانه : بأن يبلغه إلى من ينتفع به ، أو يقضي به ، كلّما ظهر الداعي إلى الاستظهار به ، أو قبل ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه : بغيبة أو طروّ نسيان ، أو عروض موت ، بحسب ما يتوقّع الشاهد أنّه حافظ للحقّ الذي في علمه ، على مقدار طاقته واجتهاده.
وإذ قد علمت ـ آنفا ـ أنّ الله أنبأنا بأنّ مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله : (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) [البقرة : ٢٨٢] ، وأنّه حرّض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طلب بقوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) [البقرة : ٢٨٢] فعلم من ذلك كلّه الاهتمام بإظهار الشهادة إظهارا للحق. ويؤيّد هذا المعنى ويزيده بيانا : قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» رواه مالك في «الموطّأ» ، ورواه عنه مسلم والأربعة.
فهذا وجه تفسير الآية تظاهر فيه الأثر والنظر. ولكن روى في «الصحيح» عن أبي هريرة : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «خير أمّتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ـ قالها ثانية وشكّ أبو هريرة في الثالثة ـ ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا» الحديث.
وهو مسوق مساق ذمّ من وصفهم بأنّهم يشهدون قبل أن يستشهدوا ، وأنّ ذمّهم من أجل تلك الصفة. وقد اختلف العلماء في محمله ؛ قال عياض : حمله قوم على ظاهره من ذمّ من يشهد قبل أن تطلب منه الشهادة ، والجمهور على خلافه وأنّ ذلك غير قادح ، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهد كاذبا ، وإلّا فقد جاء في «الصحيح» : «خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها». وأقول : روى مسلم عن عمران بن حصين : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم ـ قالها مرتين أو ثلاثا ـ ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون» الحديث.
والظاهر أنّ ما رواه أبو هريرة وما رواه عمران بن حصين حديث واحد ، سمعه كلاهما ، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبيّنا لفظ أبي هريرة أنّ معنى قوله : قبل أن يستشهدوا دون أن يستشهدوا ، أي دون أن يستشهدهم مشهد ، أي أن يحملوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون ، وهو الذي عناه المازري بقوله : وحملوا ما في الحديث ـ أي حديث أبي هريرة ـ على ما إذا شهد كاذبا. فهذا طريق للجمع بين