فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا : لا نطيقها ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : قولوا : «سمعنا وأطعنا وسلمنا» فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدّمين ، والمراد البيان والتخصيص لأنّ الذي تطمئنّ له النفس : أنّ هذه الآيات متتابعة النظم ، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجّمة ، فحدث بين فترة نزولها ما ظنّه بعض المسلمين حرجا.
والوسع في القراءة بضم الواو ، في كلام العرب مثلّث الواو وهو الطاقة والاستطاعة ، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع ، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول. والمستطاع هو ما اعتاد الناس قدرتهم على أن يفعلوه إن توجّهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع.
وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم (نفسا) في سياق النفي ، لأنّ الله تعالى ما شرع التكليف إلّا للعمل واستقامة أحوال الخلق ، فلا يكلّفهم ما لا يطيقون فعله ، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات ، هذا حكم عام في الشرائع كلّها.
وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق ، بشهادة قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة «المشقّة تجلب التيسير». وكانت المشقة مظنّة الرخصة ، وضبط المشاقّ المسقطة للعبادة مذكور في الأصول ، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمّى «مقاصد الشريعة» وما ورد من التكاليف الشاقّة فأمر نادر ، في أوقات الضرورة ، كتكليف الواحد من المسلمين بالثبات للعشرة من المشركين ، في أول الإسلام ، وقلّة المسلمين.
وهذه المسألة هي المعنونة في كتب الأصلين بمسألة التكليف بالمحال ، والتكليف بما لا يطاق ، وهي مسألة أرنّت بها كتب الأشاعرة والمعتزلة ، واختلفوا فيها اختلافا شهيرا ، دعا إليه التزام الفريقين للوازم أصولهم وقواعدهم فقالت الأشاعرة : يجوز على الله تكليف ما لا يطاق بناء على قاعدتهم في نفي وجوب الصلاح على الله ، وأنّ ما يصدر منه تعالى كلّه عدل لأنّه مالك العباد ، وقاعدتهم في أنّه تعالى يخلق ما يشاء ، وعلى قاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف لا تختص بقصد الامتثال بل قد تكون لقصد التعجيز والابتلاء وجعل الامتثال علامة على السعادة ، وانتفائه علامة على الشقاوة ، وترتّب الإثم لأنّ الله تعالى إثابة