عطف على جملة (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) [الأنعام : ٦٦]. والعدول عن الإتيان بالضمير إلى الإتيان بالاسم الظاهر وهو اسم الموصول ، فلم يقل : وإذا رأيتهم فأعرض عنهم ، يدلّ على أنّ الذي يخوضون في الآيات فريق خاص من القوم الذين كذّبوا بالقرآن أو بالعذاب. فعموم القوم أنكروا وكذّبوا دون خوض في آيات القرآن ، فأولئك قسم ، والذين يخوضون في الآيات قسم كان أبذى وأقذع ، وأشدّ كفرا وأشنع ، وهم المتصدّون للطعن في القرآن. وهؤلاء أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم بالإعراض عن مجادلتهم وترك مجالسهم حتّى يرعووا عن ذلك. ولو أمر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالإعراض عن جميع المكذّبين لتعطّلت الدّعوة والتبليغ.
ومعنى (إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ) إذا رأيتهم في حال خوضهم. وجاء تعريف هؤلاء بالموصولية دون أن يقال الخائضين أو قوما خائضين لأنّ الموصول فيه إيماء إلى وجه الأمر بالإعراض لأنّه أمر غريب ، إذ شأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يمارس الناس لعرض دعوة الدين ، فأمر الله إيّاه بالإعراض عن فريق منهم يحتاج إلى توجيه واستئناس. وذلك بالتعليل الذي أفاده الموصول وصلته ، أي فأعرض عنهم لأنّهم يخوضون في آياتنا.
وهذه الآية أحسن ما يمثّل به ، لمجيء الموصول للإيماء إلى إفادة تعليل ما بني عليه من خبر أو إنشاء ، ألا ترى أنّ الأمر بالإعراض حدّد بغاية حصول ضدّ الصلة. وهي أيضا أعدل شاهد لصحة ما فسّر به القطب الشيرازي في «شرح المفتاح» قول السكاكي (أو أن تومئ بذلك إلى وجه بناء الخبر) بأنّ وجه بناء الخبر هو علّته وسببه ، وإن أبى التفتازانيّ ذلك التفسير.
والخوض حقيقته الدخول في الماء مشيا بالرّجلين دون سباحة ثم استعير للتصرّف الذي فيه كلفة أو عنت ، كما استعير التعسّف وهو المشي في الرمل لذلك. واستعير الخوض أيضا للكلام الذي فيه تكلّف الكذب والباطل لأنّه يتكلّف له قائله ، قال الراغب : وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذمّ الشروع فيه ، قال تعالى : (يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) ، (نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة : ٦٥] ، (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] ، (ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام : ٩١]. فمعنى (يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) يتكلّمون فيها بالباطل والاستهزاء.
والخطاب للرسول صلىاللهعليهوسلم مباشرة وحكم بقية المسلمين كحكمه ، كما قال في ذكر المنافقين في سورة النساء [١٤٠] (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ).