الذي هدانا الله فيه ، ونظيره (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) في سورة آل عمران[٨].
(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا).
ارتقى في تمثيل حالهم لو فرض رجوعهم على أعقابهم بتمثيل آخر أدقّ ، بقوله : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) ، وهو تمثيل بهيئة متخيّلة مبنيّة على اعتقاد المخاطبين في أحوال الممسوسين. فالكاف في موضع الحال من الضمير في (نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) ، أي حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين فهذه الحال مؤكّدة لما في (نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) من معنى التمثيل بالمرتدّ على أعقابه.
والاستهواء استفعال ، أي طلب هوى المرء ومحبّته ، أي استجلاب هوى المرء إلى شيء يحاوله المستجلب. وقرّبه أبو علي الفارسي بمعنى همزة التعدية. فقال : استهواه بمعنى أهواه مثل استزلّ بمعنى أزلّ. ووقع في «الكشّاف» أنّه استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها ، ولا يعرف هذا المعنى من كلام أئمّة اللغة ولم يذكره هو في «الأساس» مع كونه ذكر (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) ولم ينبّه على هذا من جاء بعده.
والعرب يقولون : استهوته الشياطين ، إذا اختطفت الجنّ عقله فسيّرته كما تريد. وذلك قريب من قولهم : سحرته ، وهم يعتقدون أنّ الغيلان هي سحرة الجن ، وتسمّى السعالي أيضا ، واحدتها سعلاة ، ويقولون أيضا : استهامته الجنّ إذا طلبت هيامه بطاعتها.
وقوله : (فِي الْأَرْضِ) متعلّق ب (اسْتَهْوَتْهُ) ، لأنّه يتضمّن معنى ذهبت به وضلّ في الأرض. وذلك لأنّ الحالة التي تتوهّمها العرب استهواء الجنّ يصاحبها التوحّش وذهاب المجنون على وجهه في الأرض راكبا رأسه لا ينتصح لأحد ، كما وقع لكثير من مجانينهم ومن يزعمون أنّ الجنّ اختطفتهم. ومن أشهرهم عمرو بن عدي الأيادي اللخمي ابن أخت جذيمة بن مالك ملك الحيرة. وجوّز بعضهم أن يكون (فِي الْأَرْضِ) متعلّقا ب (حَيْرانَ) ، وهو بعيد لعدم وجود مقتض لتقديم المعمول.
و (حَيْرانَ) حال من (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ) ، وهو وصف من الحيرة ، وهي عدم الاهتداء إلى السبيل. يقال : حار يحار إذ تاه في الأرض فلم يعلم الطريق. وتطلق مجازا على التردّد في الأمر بحيث لا يعلم مخرجه ، وانتصب (حَيْرانَ) على الحال من (كَالَّذِي).
وجملة : (لَهُ أَصْحابٌ) حال ثانية ، أي له رفقة معه حين أصابه استهواء الجنّ. فجملة (يَدْعُونَهُ) صفة ل (أَصْحابٌ).