إيّاهم على ضلالهم لأنّه لما انتفى استحقاق الإلهية عن أعظم الكواكب التي عبدوها فقد انتفى عمّا دونها بالأحرى.
والبريء فعيل بمعنى فاعل من برىء ـ بكسر الرّاء لا غير ـ يبرأ ـ بفتح الرّاء لا غير ـ بمعنى تفصّى وتنزّه ونفى المخالطة بينه وبين المجرور ب (من). ومنه (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٣] ، (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) [الأحزاب : ٦٩] ، (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) [يوسف : ٥٣]. فمعنى قوله (بَرِيءٌ) هنا أنّه لا صلة بينه وبين ما يشركون. والصلة في هذا المقام هي العبادة إن كان ما يشركون مرادا به الأصنام ، أو هي التلبّس والاتّباع إن كان ما يشركون بمعنى الشرك.
والأظهر أنّ (ما) في قوله (مِمَّا تُشْرِكُونَ) موصولة وأنّ العائد محذوف لأجل الفاصلة ، أي ما تشركون به ، كما سيأتي في قوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) [الأنعام : ٨٠] لأنّ الغالب في فعل البراءة أن يتعلّق بالذوات ، ولئلّا يتكرّر مع قوله بعده (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). ويجوز أن تكون (ما) مصدرية ، أي من إشراككم ، أي لا أتقلّده.
وتسميته عبادتهم الأصنام إشراكا لأنّ قومه كانوا يعترفون بالله ويشركون معه في الإلهية غيره كما كان إشراك العرب وهو ظاهر أي القرآن حيث ورد فيها الاحتجاج عليهم بخالق السماوات والأرض ، وهو المناسب لضرب المثل لمشركي العرب بشأن إبراهيم وقومه ، ولقوله الآتي (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام : ٨٢].
وجملة (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) بمنزلة بدل الاشتمال من جملة (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) ، لأنّ البراءة من الإشراك تشتمل على توجيه الوجه إلى الله ، وهو إفراده بالعبادة. والوجه في قوله : (وَجْهِيَ). و (وَجَّهْتُ) مشتقّ من الجهة والوجهة ، أي صرفته إلى جهة ، أي جعلت كذا جهة له يقصدها. يقال : وجّهه فتوجّه إلى كذا إذا ذهب إليه. ويقال للمكان المقصود وجهة ـ بكسر الواو ـ ، وكأنّهم صاغوه على زنة الهيئة من الوجه لأنّ القاصد إلى مكان يقصده من نحو وجهه ، وفعلوه على زنة الفعلة ـ بكسر الفاء ـ لأنّ قاصد المكان بوجهه تحصل هيئة في وجهه وهي هيئة العزم وتحديق النظر. فمعنى (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) صرفته وأدرته. وهذا تمثيل : شبّهت حالة إعراضه عن الأصنام وقصده إلى إفراد الله تعالى بالعبادة بمن استقبل بوجهه شيئا وقصده وانصرف عن غيره.
وأتي بالموصول في قوله : (لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ليومئ إلى علّة توجّهه إلى عبادته ، لأنّ الكواكب من موجودات السماء ، والأصنام من موجودات الأرض فهي