فاعلا هو البادئ بالمحاجّة ، وأنّ بعض العلماء استشكل قوله تعالى في سورة البقرة [٢٥٨] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) حيث قال : (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨]. فبدأ بكلام إبراهيم وهو مفعول الفعل وأجاب بأنّ إبراهيم بدأ بالمقاولة ونمروذ بدأ المحاجّة. ولم يذكر أئمّة اللّغة هذا القيد في استعمال صيغة المفاعلة. ويجوز أن يكون المراد هنا أنّهم سلكوا معه طريق الحجّة على صحّة دينهم أو على إبطال معتقده وهو يسمع ، فجعل سماعه كلامهم بمنزلة جواب منه فأطلق على ذلك كلمة المحاجّة. وأبهم احتجاجهم هنا إذ لا يتعلّق به غرض لأنّ الغرض هو الاعتبار بثبات إبراهيم على الحقّ. وحذف متعلّق (حاجَّهُ) لدلالة المقام ، ودلالة ما بعده عليه من قوله : (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) الآيات.
وقد ذكرت حججهم في مواضع في القرآن ، منها قوله في سورة الأنبياء [٥٢ ـ ٥٦] (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ ـ إلى قوله ـ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، وقوله في سورة الشعراء [٧٢ ، ٧٣] (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) الآيات ، وفي سورة الصافات [٨٥ ـ ٩٨] (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ ـ إلى قوله ـ فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) وكلّها محاجّة حقيقيّة ، ويدخل في المحاجّة ما ليس بحجّة ولكنّه ممّا يرونه حججا بأن خوّفوه غضب آلهتهم ، كما يدلّ عليه قوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) الآية. والتقدير : وحاجّه قومه فقالوا : كيت وكيت.
وجملة (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) جواب محاجّتهم ، ولذلك فصلت ، على طريقة المحاورات كما قدّمناه في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) في سورة البقرة [٣٠] ، فإن كانت المحاجّة على حقيقة المفاعلة فقوله (أَتُحاجُّونِّي) غلق لباب المجادلة وختم لها ، وإن كانت المحاجّة مستعملة في الاحتجاج فقوله : (أَتُحاجُّونِّي) جواب لمحاجّتهم ، فيكون كقوله تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) [آل عمران : ٢٠]. والاستفهام إنكار عليهم وتأييس من رجوعه إلى معتقدهم.
و (فِي) للظرفية المجازية متعلّقة ب (تُحاجُّونِّي) ودخولها على اسم الجلالة على تقدير مضاف ، لأنّ المحاجّة لا تكون في الذّوات ، فتعيّن تقدير ما يصلح له المقام وهو صفات الله الدّالّة على أنّه واحد ، أي في توحيد الله وهذا كقوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] أي في استئصالهم.