وجملة (وَقَدْ هَدانِ) حال مؤكّدة للإنكار ، أي لا جدوى لمحاجّتكم إيّاي بعد أن هداني الله إلى الحقّ ، وشأن الحال المؤكّدة للإنكار أن يكون اتّصاف صاحبها بها معروفا عند المخاطب. فالظاهر أنّ إبراهيم نزّلهم في خطابه منزلة من يعلم أنّ الله هداه كناية على ظهور دلائل الهداية.
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر أتحاجوني ـ بنون واحدة خفيفة ـ وأصله أتحاجّونني ـ بنونين ـ فحذفت إحداهما للتخفيف ، والمحذوفة هي الثانية التي هي نون الوقاية على مختار أبي علي الفارسي. قال : لأنّ الأولى نون الإعراب وأمّا الثّانية فهي موطّئة لياء المتكلّم فيجوز حذفها تخفيفا ، كما قالوا : ليتي في ليتني. وذهب سيبويه أنّ المحذوفة هي الأولى لأنّ الثانية جلبت لتحمل الكسرة المناسبة للياء ونون الرفع لا تكون مكسورة ، وأيّا ما كان فهذا الحذف مستعمل لقصد التخفيف. وعن أبي عمرو بن العلاء : أنّ هذه القراءة لحن ، فإن صحّ ذلك عنه فهو مخطئ في زعمه ، أو أخطأ من عزاه إليه. وقرأه البقية ـ بتشديد النّون ـ لإدغام نون الرفع في نون الوقاية لقصد التخفيف أيضا ، ولذلك تمدّ الواو لتكون المدّة فاصلة بين التقاء الساكنين ، لأنّ المدّة خفّة وهذا الالتقاء هو الذي يدعونه التقاء الساكنين على حدّه.
وحذفت ياء المتكلّم في قوله (وَقَدْ هَدانِ) للتخفيف وصلا ووقفا في قراءة نافع من رواية قالون ، وفي الوقف فقط في قراءة بعض العشرة. وقد تقدّم في قوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦].
وقوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) معطوف على (أَتُحاجُّونِّي) فتكون إخبارا ، أو على جملة (وَقَدْ هَدانِ) فتكون تأكيدا للإنكار. وتأكيد الإنكار بها أظهر منه لقوله (وَقَدْ هَدانِ) لأنّ عدم خوفه من آلهتهم قد ظهرت دلائله عليه. فقومه إمّا عالمون به أو منزّلون منزلة العالم ، كما تقدّم في قوله : (وَقَدْ هَدانِ) وهو يؤذن بأنّهم حاجّوه في التّوحيد وخوّفوه بطش آلهتهم ومسّهم إيّاه بسوء ، إذ لا مناسبة بين إنكار محاجّتهم إيّاه وبين نفي خوفه من آلهتهم ، ولا بين هدى الله إيّاه وبين نفي خوفه آلهتهم ، فتعيّن أنّهم خوّفوه مكر آلهتهم. ونظير ذلك ما حكاه الله عن قوم هود (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤].
و (ما) من قوله : (ما تُشْرِكُونَ بِهِ) موصولة ما صدقها آلهتهم التي جعلوها شركاء لله في الإلهيّة. والضمير في قوله (بِهِ) يجوز أن يكون عائدا على اسم الجلالة فتكون الباء