في البلد المجاور مكّة ، واليهود يتردّدون على مكّة في التّجارة وغيرها ، وأهل مكّة يتردّدون على يثرب وما حولها وفيها اليهود وأحبارهم ، وبهذا لم يذكّرهم الله برسالة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ لأنّهم كانوا يجهلون أنّ الله أنزل عليه صحفا فكان قد يتطرّقه اختلاف في كيفية رسالته ونبوءته. وإذا كان ذلك لا يسع إنكاره كما اقتضاه الجواب آخر الآية بقوله : (قُلِ اللهُ) فقد ثبت أنّ الله أنزل على أحد من البشر كتابا فانتقض قولهم : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) على حسب قاعدة نقض السالبة الكليّة بموجبة جزئيّة. وافتتح بالأمر بالقول للاهتمام بهذا الإفحام ، وإلّا فإنّ القرآن كلّه مأمور النّبيء صلىاللهعليهوسلم بأن يقوله.
والنّور : استعارة للوضوح والحقّ ، فإنّ الحقّ يشبّه بالنّور ، كما يشبّه الباطل بالظلمة. قال أبو القاسم عليّ التّنوخي :
وكأنّ النّجوم بين دجاها |
|
سنن لاح بينهنّ ابتداع |
ولذلك عطف عليه (هُدىً). ونظيره قوله في سورة المائدة [٤٤] (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ). ولو أطلق النّور على سبب الهدى لصحّ لو لا هذا العطف ، كما قال تعالى عن القرآن (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢]. وقد انتصب (نُوراً) على الحال.
والمراد بالنّاس اليهود ، أي ليهديهم ، فالتّعريف فيه للاستغراق ، إلّا أنّه استغراق عرفي ، أي النّاس الّذين هم قومه بنو إسرائيل.
وقوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) يجوز أن يكون صفة سببيّة للكتاب ، ويجوز أن يكون معترضا بين المتعاطفات.
قرأ (تَجْعَلُونَهُ) ـ و (تُبْدُونَها) ـ و (تُخْفُونَ) ـ بتاء الخطاب ـ من عدا ابن كثير ، وأبا عمرو ، ويعقوب ، من العشرة ، فإمّا أن يكون الخطاب لغير المشركين إذ الظاهر أن ليس لهم عمل في الكتاب الذي أنزل على موسى ولا باشروا إبداء بعضه وإخفاء بعضه فتعيّن أن يكون خطابا لليهود على طريقة الإدماج (أي الخروج من خطاب إلى غيره) تعريضا باليهود وإسماعا لهم وإن لم يكونوا حاضرين من باب إياك أعني واسمعي يا جارة ، أو هو التفات من طريق الغيبة الّذي هو مقتضى المقام إلى طريق الخطاب. وحقّه أن يقال يجعلونه ـ بياء المضارع للغائب ـ كما قرأ غير هؤلاء الثّلاثة القرّاء. وإمّا أن يكون خطابا للمشركين. ومعنى كونهم يجعلون كتاب موسى قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها أنّهم سألوا