وأمّا جملة (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) فوجود واو العطف في أوّلها مانع من تعليق (لِتُنْذِرَ) بفعل (أَنْزَلْناهُ) ، ومن جعل المجرور خبرا عن (كِتابٌ) خلافا للتفتازاني ، إذ الخبر إذا كان مجرورا لا يقترن بواو العطف ولا نظير لذاك في الاستعمال ، فوجود لام التّعليل مع الواو مانع من جعلها خبرا آخر ل (كِتابٌ) ، فلا محيص عند توجيه انتظامها مع ما قبلها من تقدير محذوف أو تأويل بعض ألفاظها ، والوجه عندي أنّه معطوف على مقدّر ينبئ عنه السّياق. والتّقدير : ليؤمن أهل الكتاب بتصديقه ولتنذر المشركين. ومثل هذا التّقدير يطّرد في نظائر هذه الآية بحسب ما يناسب أن يقدّر. وهذا من أفانين الاستعمال الفصيح. ونظيره قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) في سورة إبراهيم [٥٢].
ووقع في «الكشاف» أنّ (وَلِتُنْذِرَ) معطوف على ما دلّت عليه صفة الكتاب ، كأنّه قيل : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدّمه والإنذار ا ه. وهذا وإن استتبّ في هذه الآية فهو لا يحسن في آية سورة إبراهيم ، لأنّ لفظ «بلاغ» اسم ليس فيه ما يشعر بالتّعليل ، و «للنّاس» متعلّق به واللّام فيه للتّبليغ لا للتّعليل ، فتعيّن تقدير شيء بعده نحو لينتبهوا أو لئلّا يؤخذوا على غفلة ولينذروا به.
والإنذار : الإخبار بما فيه توقّع ضرّ ، وضدّه البشارة. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) في سورة البقرة [١١٩]. واقتصر عليه لأنّ المقصود تخويف المشركين إذ قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١].
وأمّ القرى : مكّة ، وأمّ الشيء استعارة شائعة في الأمر الّذي يرجع إليه ويلتفّ حوله ، وحقيقة الأمّ الأنثى الّتي تلد الطفل فيرجع الولد إليها ويلازمها ، وشاعت استعارة الأمّ للأصل والمرجع حتّى صارت حقيقة ، ومنه سمّيت الراية أمّا ، وسمّي أعلى الرأس أمّ الرأس ، والفاتحة أمّ القرآن. وقد تقدّم ذلك في تسمية الفاتحة. وإنّما سمّيت مكّة أمّ القرى لأنّها أقدم القرى وأشهرها وما تقرّت القرى في بلاد العرب إلّا بعدها ، فسمّاها العرب أمّ القرى ، وكان عرب الحجاز قبلها سكّان خيام.
وإنذار أمّ القرى بإنذار أهلها ، وهذا من مجاز الحذف كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، وقد دلّ عليه قوله (وَمَنْ حَوْلَها) ، أي القبائل القاطنة حول مكّة مثل خزاعة ، وسعد بن بكر ، وهوازن ، وثقيف ، وكنانة.
ووجه الاقتصار على أهل مكّة ومن حولها في هذه الآية أنّهم الّذين جرى الكلام