والملائكة وقد عبدوهما فإنّهما وإن كانا غير مدركين بالأبصار في المتعارف لكلّ النّاس ولا في كلّ الأوقات إلّا أنّ المشركين يزعمون أنّ الجنّ تبدو لهم تارات في الفيافي وغيرها. قال شمر بن الحارث الضبي :
أتوا ناري فقلت منون أنتم |
|
فقالوا الجنّ قلت عموا ظلاما |
ويتوهّمون أنّ الملائكة يظهرون لبعض النّاس ، يتلقّون ذلك عن اليهود.
والإدراك حقيقته الوصول إلى المطلوب. ويطلق مجازا على شعور الحاسّة بالمحسوس أو العقل بالمعقول يقال : أدرك بصري وأدرك عقلي تشبيها لآلة العلم بشخص أو فرس وصل إلى مطلوبه تشبيه المعقول بالمحسوس ، ويقال : أدرك فلان ببصره وأدرك بعقله ، ولا يقال : أدرك فلان بدون تقييد ، واصطلح المتأخّرون من المتكلّمين والحكماء على تسمية الشعور العقلي إدراكا ، وجعلوا الإدراك جنسا في تعريف التصوّر والتّصديق ، ووصفوا صاحب الفهم المستقيم بالدّراكة.
وأمّا قوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) فيجوز أن يكون إسناد الإدراك إلى اسم الله مشاكلة لما قبله من قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ). ويجوز أن يكون الإدراك فيه مستعارا للتصرّف لأنّ الإدراك معناه النوال.
والأبصار جمع بصر ، وهو اسم للقوّة الّتي بها النّظر المنتشرة في إنسان العين الّذي في وسط الحدقة وبه إدراك المبصرات. والمعنى : لا تحيط به أبصار المبصرين لأنّ المدرك في الحقيقة هو المبصر لا الجارحة ، وإنّما الجارحة وسيلة للإدراك لأنّها توصّل الصّورة إلى الحسّ المشترك في الدّماغ. والمقصود من هذا بيان مخالفة خصوصيّة الإله الحقّ عن خصوصيات آلهتهم في هذا العالم ، فإنّ الله لا يرى وأصنامهم ترى ، وتلك الخصوصيّة مناسبة لعظمته تعالى ، فإنّ عدم إحاطة الأبصار بالشّيء يكون من عظمته فلا تطيقه الأبصار ، فعموم النّكرة في سياق النّفي يدلّ على انتفاء أن يدركه شيء من أبصار المبصرين في الدّنيا كما هو السّياق.
ولا دلالة في هذه الآية على انتفاء أن يكون الله يرى في الآخرة ، كما تمسّك به نفاة الرّؤية ، وهم المعتزلة لأنّ للأمور الآخرة أحوالا لا تجري على متعارفنا ، وأحرى أن لا دلالة فيها على جواز رؤيته تعالى في الآخرة. ومن حاول ذلك فقد تكلّف ما لا يتمّ كما صنع الفخر في «تفسيره».