وأحسن من ذلك تأويلا أن يكون الضميران عائدين إلى ما عادت إليه ضمائر الغيبة في هذه الآيات التي آخرها ضمير (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، فيكون موقع جملة (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) موقع الإدماج والاستطراد مجابهة للمشركين بأنّهم محشورون إلى الله لا محالة وإن أنكروا ذلك.
فإذا وقع الالتفات إلى ما روي من الآثار المتعلّقة بالآية كان الأمر مشكلا. فقد روى مسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتّى يقاد للشّاة الجلحاء (التي لا قرن لها ، وفي رواية غيره : الجماء) من الشاة القرناء». وروى أحمد بن حنبل وأبو داود الطيالسي في «مسنديهما» عن أبي ذرّ قال : انتطحت شاتان أو عنزان عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا ، قلت : لا ، قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما يوم القيامة. فهذا مقتض إثبات حشر الدوابّ ليوم الحساب ، فكان معناه خفي الحكمة إذ من المحقّق انتفاء تكليف الدوابّ والطير تبعا لانتفاء العقل عنها. وكان موقعها جلي المناسبة بما قاله الفخر نقلا عن عبد الجبّار بأنّه لمّا قدّم الله أنّ الكفّار يرجعون إليه ويحشرون بيّن بعده أنّ الدوابّ والطير أمم أمثالهم في أنّهم يحشرون. والمقصود بيان أنّ الحشر والبعث كما هو حاصل في الناس حاصل في البهائم. وهذا ظاهر قوله : (يُحْشَرُونَ) لأنّ غالب إطلاق الحشر في القرآن على الحشر للحساب ، فيناسب أن تكون جملة : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) الآية عطفا على جملة : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) ، فإنّ المشركين ينكرون البعث ويجعلون إخبار الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ به من أسباب تهمته فيما جاء به ، فلمّا توعّدهم الله بالآية السابقة بأنّهم إليه يرجعون زاد أن سجّل عليهم جهلهم فأخبرهم بما هو أعجب ممّا أنكروه ، وهو إعلامهم بأنّ الحشر ليس يختصّ بالبشر بل يعمّ كلّ ما فيه حياة من الدّوابّ والطير. فالمقصود من هذا الخبر هو قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ). وأمّا ما قبله فهو بمنزلة المقدمة له والاستدلال عليه ، أي فالدّوابّ والطير تبعث مثل البشر وتحضر أفرادها كلّها يوم الحشر ، وذلك يقتضي لا محالة أن يقتصّ لها ، فقد تكون حكمة حشرها تابعة لإلقاء الأرض وما فيها وإعادة أجزاء الحيوان.
وإذا كان المراد من هذين الحديثين ظاهرهما فإنّ هذا مظهر من مظاهر الحق يوم القيامة لإصلاح ما فرط في عالم الفناء من رواج الباطل وحكم القوة على العدالة ، ويكون القصاص بتمكين المظلوم من الدوابّ من ردّ فعل ظالمه كيلا يستقرّ بالباطل. فهو من قبيل