لا خفاء في أن إثبات المحدد مبنى على اقتناع الخلاء ، وإلا لجاز أن تنتهي إليه الامتدادات وتتعين به أوضاع الجهات ، وعلى اختلاف الأجسام بالحقيقة ، واستناد بعض حركاتها إلى الطبيع ، وإلا لما كان من الأجسام ما يقتضي صوب المحيط ، ويتحرك إليه بالطبع ، ومنها ما يقتضي صوب المركز ويتحرك إليه بالطبع ، فلم يكن العلو والسفل جهتين طبيعيتين ، ولما كان عندنا أن الخلاء ممكن ، وأن الأجسام متماثلة ، يجوز على كل منهما ما يجوز على الآخر ، وأن الحركات مستندة إلى قدرة الفاعل المختار ، لا أثر فيها للطبيعة ، لم يتم ما ذكروه في إثبات المحدد بالتفسير المذكور ، ولم تمتنع الحركة المستقيمة على السموات كما (١) لم تمتنع على العناصر لتحقق الجهات بدونها ، ولم يثبت ما فرعوا على إثبات المحدد ، وعدم قبوله الحركة المستقيمة من أن السموات لا تقبل الخرق والالتئام ، ولا الكون والفساد ، ولا الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، ولا الألوان والطعوم ، والروائح ولا اللين والصلابة (٢) والخشونة والملاسة ، ولا الخفة والثقل إلى غير ذلك مما ورد به الشريعة المطهرة ، على أنه لو تم ما ذكر. ففي المحدد خاصة دون سائر الأفلاك. فإن تمسكوا بأنه علم بالرصد أنها تتحرك على الاستدارة فيكون فيها مبدأ ميل مستدير فلا تتحرك على الاستقامة ، لامتناع اجتماع المثلين.
قلنا : لو سلّم ذلك ، فامتناع انقطاع الاستدارة ، وحدوث الاستقامة لم يعلم بالرصد، ودليل سرمدية (٣) الحركات لم يتم. كيف وقد جعلوها إرادية لا ذاتية ، يمتنع انفكاكها ، وزعم جماعة من قدماء الحكماء المتألهين. أن الأفلاك في غاية
__________________
(١) في (ب) بل بدلا من (كما)
(٢) سقط من (أ) لفظ (والصلابة)
(٣) السرمد في اللغة : الدائم الذي لا ينقطع وفي التنزيل العزيز : «قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا الى يوم القيامة» والسرمدي هو المنسوب الى السرمد ، وهو ما لا أول له ، ولا آخر ، وله طرفان أحدهما دوام الوجود في الماضي ويسمى أزلا والآخر دوام الوجود في المستقبل ويسمى «أبدا» وفرق بعضهم بين الزمان والدهر والسرمد. فقال ان نسبة المتغير الى المتغير هي الزمان ونسبة المتغير الى الثابت هي الدهر ، ونسبة الثابت الى الثابت هي السرمد.
فالسرمد بهذا المعنى مرادف للابد اللازماني وهو المطلق او الشيء الذي لا نهاية له.