الحقيقي أقرب ، وإلى الواحد الذي هو المبدأ أنسب ، كان بإفاضة الكمال عليه أجدر ، وخط الاستواء بالضد من ذلك ، وهذا وإن أمكن استناده إلى أسباب أرضية ، إلا أنه حدسي يكاد يقع به الجزم. كيف لا؟ ومبنى عمارة الأقاليم ، وكثرة التواليد فيها على الاعتدال ، فما كان منها أوسط ، والتوالد والعمارة فيه أوفر ، كان إلى الاعتدال الحقيقي أقرب ، وعن الفجاجة والاحتراق أبعد ، ثم تلا نزاع في إمكان بقعة أعدل منهما ، باتفاق من الأسباب الأرضية].
قد اتفقوا على أنه إذا اعتبرت الأنواع كان أعدل الأمزجة أي أقربها إلى الاعتدال الحقيقي ، مزاج نوع الإنسان لأنه متعلق للنفس الناطقة الأشرف ، فلا بدّ أن يكون أشرف ، أي أقرب إلى الوحدة الحقيقية ، وأبعد عن التضاد والكثرة ، ولأنه أحوج الأنواع إلى الأفعال المتقنة التي تعين على بعضها الحرارة كالهضم ، وعلى بعضها البرودة كالإمساك ، وعلى بعضها اليبوسة كالحفظ ، وعلى بعضها الرطوبة كالإدراك.
واختلفوا في أعدل الأصناف بالنظر إلى أوضاع العلويات. فقال ابن سينا : سكان خط الاستواء ، أي الموضع الموازي لمعدل النهار ، وذلك لتشابه أحوالهم في الحر والبرد ، لتساوي ليلهم ونهارهم دائما ، ولأنه ليس صيفهم شديد الحر ، لأن الشمس تزول عن سمت رأسهم بسرعة ، لما تقرر في موضعه من أن حركتها في الميل. أعني البعد عن معدل النهار أسرع عند الاعتدالين ، وأبطأ عند الانقلابين ، ولا شتاؤهم شديد البرد ، لأن الشمس لا تبعد عن سمتهم كثيرا ، فلا يعظم التفاوت بين صيفه وشتائه. ومع ذلك فمدة كل منهما قصيرة ، وهي شهر ونصف كما مرّ من كون الفصول هناك ثمانية. فالشمس لا تسامتهم عن بعد كثير ، بل عن قرب من المسامتة ، فهم دائما منتقلون من حالة متوسطة إلى ما يشابهها ، فكأنهم في الربيع دائما. واستدل بعضهم على فساد هذا الرأي بوجهين :
أحدهما : أن الشمس تسامت رءوسهم في السنة مرتين ، ثم لا تبعد عن المسامتة بأكثر من ثلاثة وعشرين جزءا ونصفا ، على ما هو غاية الميل الكلي ، فهم