محل تمكينه في نيابة الحق في ملكه ، وأعلمنا أن من لا يكون بوصف سليمان لم يجز له أن يدخل في سعة الدنيا وذكر المنة ، وجوزه أن يمنّ على عباده بنعمة الدنيا ؛ إذ كان منته منة الحق صافيا عن حظ نفسه ، لكن ما أمره بمنة المعرفة على عباده ، فليس في معرفة الله لأحد على أحد ؛ فإنها فضل منه على عباده بغير واسطة.
قال ابن عطاء : امنن على من أردت بعطائنا ، وإنا لا نمنّ عليك بذلك ، ولا نمنّ عليك إلا بالمعرفة والهداية ، قال الله تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ).
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣))
قوله تعالى (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) : ذكر الله سبحانه رتبته ومحله في تمكينه ، أعطاه ملك الدنيا مع ملك الآخرة من المعرفة والمحبة والنبوة بألا مضرة فيه عليه ولا في مقاماته وأحواله الشريفة ، بل كان له مزيدا في حاله ورفعة ، وشرفا في معرفته ، وأخبر من حسن مآبه بأنه تعالى ستره بأنوار قربه حين آواه من قهره بلطفه ورجوعه إلى الحق بحسن التضرع والبكاء والخشوع والحياء في كل لحظة ولمحة.
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥))
قوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) : افهم يا حبيبي أنه تعالى بوجود جلال قدمه أبلى أهل محبته ، ولا يوازي بلاؤه صبر أهل الحدثان ، بل كان خارجا عن صبر المخلوق والتصبر المكتسب ، ورجع إلى الحق بلا صبر نفسه ، وانخلع من حوله وقوته ، وسأل أن يعطيه الله صبرا يحتمل به بلاء القديم ، فلما رآه الحق خارجا من صبره ألبسه من صبره القديم كسوة ، فاحتمل به بلاءه ، فأثنى عليه الحق بعد اتصافه به وانخلاعه من دعوى الأنائية بعد الاتحاد به الذي لو ألقى ذرة على جميع قلوب العارفين يدّعون دعوى الأنانية ، فلما لم يؤثر فيه سكر الاتحاد والاتصاف وبقي متمكنا في العبودية واستلذ بحلاوة مشاهدته من قهره كما استلذ بمشاهدته من لطفه ، فقال : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤) أي : راجع من دعوى الأنانية إليّ بنعت العبودية ، ومن لم يحمل بلاءه إلا به كيف يحتمل بلاءه بنفسه.
قال ابن عطاء : واقفا معنا بحسن الأدب لا يؤثر عليه دوام النعم ، ولا يزعجه تواتر البلاء والمحن ؛ لمشاهدته المنعم والمبلي ، ونعم العبد عبد لا يشغله ما لنا عنا.