وقال بعضهم : (وَهَبْ لِي مُلْكاً) : أي المعرفة بك حتى لا أرى معك غيرك ولا تشغلني كثرة عروض الدنيا عنك.
قال الجنيد : هب لي ملكا ثم رجع ونظر فيما سأل فقال : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أن يسأل الملك ؛ فإنه يشغل عن المالك (١).
وقال ابن عطاء : سأله ملك الدنيا ؛ لينظر كيف صبره من الدنيا مع القدرة عليها.
وقال ابن دانيار : استغفر ثم سأل الملك أعلم بذلك أن الملك لا يخلو من الفتن ظاهرا وباطنا ، فجعل أول سؤاله الاستغفار.
(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨))
قوله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (٣٦) : كان عليهالسلام من فرط حبه جمال الحق يحب أن ينظر إلى صنائعه وممالكه ساعة فساعة من المشرق إلى المغرب ؛ حتى يدرك عجائب ملكه وملكوته ، فسخر الله له الريح الرخاء ، وأجراها بمراده حيث أصاب ، وهذا جزاء صبره في ترك حظوظ نفسه ، وفي إشارة الحقيقة سهل له هبوب رياح الشوق والمحبة ، فتسرى بروحه إلى قرب مولاه إذا قصد بسره إليه.
قال محمد بن الفضل : انظر إلى ما أوتي سليمان من الملك الريح التي لا حاصل لها ، والشياطين الذين هم أعداؤه ليعلم أن الركون إلى الدنيا ركون إلى ما لا حاصل له ومجاورة الأعداء.
(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩))
قوله تعالى : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) : فيه إشارة الحقائق أي : ما أعطيتك فهو مقام الاتحاد ، وهو عطاء عظيم جعلتك خليفة لي ، فامنن بمنتي على عبادي ، أو أمسك عنهم بإمساكي ، وهذا كما قال في إشارة عين الجمع إلى سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه بقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] ، وكما قال سبحانه في بعض الحديث : «فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا» (٢) ، بيّن لسليمان
__________________
(١) دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهمّ الدين على مهمّ الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولا ثم طلب المملكة بعده ، ثم دلت الآية أيضا على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لافتتاح أبواب الخيرات في الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم توسل به إلى طلب المملكة. اللباب (١٣ / ٣٦٩).
(٢) رواه أبو نعيم في الحلية (٨ / ٣١٩) ، وابن أبي الدنيا في الأولياء (١ / ٩).