الله سبحانه عبده سليمان في مقام المعرفة والمحبة ، هو بجلاله وعزته ذوّقه طعم عشقه ومحبته ، ثم عرض نفسه بنعت ظهور حسن جمال تجليه ؛ ليزيد عليه شوق جماله ، فرأى ذلك الحسن والجمال قد ظهر من الصافنات الجياد ، فشغلته تلك الرؤية عن حقائق الفردانية وتجرد الوحدانية من الوسائط ، وغاب عنه شمس جمال القدم صرفا ، فأدرك نفسه خاليا عن شهود عين العين ؛ فغار على أحواله فقال : «ردوها عليّ» ، فلما قدس طرق الوحدانية بمكنسة الغيرة رجعت إليه أنوار الألوهية والفردانية بنعت الكشف وذهاب الحجاب ، فلما مسح الصوافنّ شكرا لإنعامه وغيرة على سلطانه سخّر الله له الريح التي جناحاها بالمشرق والمغرب.
قال أبو سعيد القرشي : من غار لله وتحرك له فإن الله يشكر له ذلك ، ألا ترى سليمان لما شغله الأفراس عن الصلاة حتى توارت الشمس بالحجاب قال : «ردوها عليّ» ، فطفق مسحا بالسوق والأعناق ، قيل : إنه كان عشرون ألف فرس منقش ذوات أجنحة أخرجته الشياطين من البحر فشكر الله له صنيعه ، فسخرنا له الريح ، وأبدله مركبا أهنأ منها وأنعم.
وقال ابن عطاء : شكر الله صنيعه وأبدله فرسا لا يحتاج إلى رائض ولا إلى علف ولا يبول ولا يروث.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) (٣٤) : هذه الفتنة أيضا فتنة العشق ، التي ظهرت له من محبته بنت الملك ، وهكذا كل فتنة لو تراها بالحقيقة ما ولدت إلا من العشق ، شغف في محبتها بحسنها وجمالها ، فغار عليه الحق ، وأسقطه من منازل الملك حتى غرّبه في القفار والبوادي ، وأنساه ذكرها غيرة عليه حتى لا يبقى في قلبه غيره ، وأجلس مكانه في الملك صخرا حتى أفسد في الأرض ، فتلطف عليه الحق ، وأرجعه إلى مكانه ومكانته ، فسأل الحق تمكينه في الملك والمملكة ، (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً) ، سأل المغفرة فيما قصّر في واجب المعرفة وحقيقتها التي يوجب انفراد القلب عن غير جمال الحق من العرش إلى الثرى ، ثم سأل ملك تمكينه في ذلك المقام ، وسأل ألا يحتجب بالملك عن المالك ، ولا يجري عليه بعد ذلك الامتحان ، ولا يسلط عليه جنود المكر والقهر ؛ حتى لا يحتجب بنفسه عن نفسه ، وقوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ليس هذا من البخل هذا شفقة على المقصرين لو كانوا مبتلين بذلك الملك ؛ ليكونوا محتجبين به عنه ، وأيضا يبلغ السالك في المعرفة والمحبة إلى ألا يطيق أن يرى غير نفسه مقام المشاهدة.
قال ابن عطاء : مكني من مخالفة نفسي حتى لا أوافقها بحال.